ثقافة وفن

النقد الأدبي بين الحضور والغياب في الصحافة المقروءة … عندما يكون الحديث عن الأعمال الإبداعية مجرد انطباعات عفوية غير دقيقة

| جُمان بركات

الهدف الرئيسي للنقد الأدبي بالدرجة الأولى هو تحليل النصوص وقراءتها بعمق يقوم به المختصون في مجال النقد، ويفترض أنهم يقدمون -من خلال تناولهم لهذه الأعمال- تقويماتٍ وأحكاماً تصنيفية تساعد القارئ على اكتشاف الأسرار الكامنة بين السطور وخلفها.
أما في مجال الصحافة المكتوبة المعاصرة فإنه يقتصر، في الأغلب، على التعريف بالعمل أو الكتاب وبمؤلفه مع ذكر بعض الأمور التي تخص هذا الجنس الأدبي أو ذاك، وقد يذكر بعض الأعمال السابقة للمؤلف نفسه، وبعض أعمال معاصريه أو من يشترك معه في النوع الأدبي، وقليلاً ما يقدم أحكاماً نقدية مهمة لها طابع الحرفية والتخصص. وربما يرافق هذا المفهوم شيء من الإثارة لدى القراء عندما يعرض قضايا قابلة للمناقشة ومثيرة للجدل وتُستعمل أيضاً للدلالة على كشف زلات الآخرين وأخطائهم وعيوبهم.

يُعرف مفهوم النقد على أنه التعبير بكل الأشكال والوسائل بما تتضمنه المجهودات والإبداعات والأفعال والأقوال البشرية من إيجابيات وسلبيات، فهو يكشف عن مواطن الجمال والقبح في محاولة لإثارة شعور بأن ما يقال صحيح. في الواقع يختلف النقد من شخص إلى آخر فما يراه البعض سلبي قد يراه آخر إيجابياً والعكس صحيح، وقد يكون النقد لجميع الإنتاجات وفي المجالات كافة كالأدب والشعر والسينما والفنون والعلوم والآراء السياسية والاجتهادات الدينية والمقالات الصحفية وغيرها.

شروط وقواعد
من المعروف كما في أي مجال أدبي أو علمي أن يكون هناك شروط وقواعد تحدد وتؤطر هذه المجالات، والنقد لا يُستثنى من ذلك، فمن أولها أن يكون الناقد على قدر وافر من المعرفة بمجال النقد ويتمتع بثقافة واسعة وشاملة تصل إلى علوم مختلفة، وأن يملك البصر الثاقب الذي يكون خير معين له على إصدار الحكم الصائب، فالأدب ونقده ذوق وفن قبل أن يكون معرفة وعلماً، وعاطفة الناقد أو توجهاته الأيديولوجية أو السياسية هي الدافع المباشر لقول ما يجب قوله وتحديد موقفه تجاه ما يعرض، أما خياله فهو وسيلة يستطيع الناقد توصيل صورة معينة تثير التساؤل في نفس القارئ من خلال لغته الناقلة لصورة ممتلئة بالحقائق.
في الواقع، النقد هو كشف عن مواطن الجمال أو القبح في الأعمال الأدبية، وكل مبدع ومنتج للنص يبحث عادة عن رد فعل القارئ العادي من جانب والدراسات الأدبية المتخصصة من جهة ثانية، وعلى المبدع الاعتراف بتجرد وشفافية بأنه يبحث عن صدى إبداعه لدى الآخرين من خلال النشر أولاً، وبعد ذلك عبر متابعة ردود الفعل حيال النص المنشور.

أين النقاد؟
بغض النظر عن شخصية المعلق إلا أننا يمكن اعتباره جزءاً من نقد حتى لو تحدث عن النص الأدبي أو المادة الفنية بانطباع عابر أو عميق، بطريقة عفوية أو دقيقة، بصورة ودودة أو كارهة، إلا أنه لا يمكن أن يكون نقداً بصيغته الإبداعية، فالنقد إبداع آخر وهو المهمة التي لا يقدر عليها سوى نخب قليلة عرفوا ببحثهم وتخصصهم وسعة اطلاعهم، فهل موجودون في وقتنا هذا على صفحات جرائدنا المحلية؟ وهل هيبة كتاباتهم ما زالت موجودة؟ من المتوقع خلال فترة الأزمة السورية أن الرأي الغالب والواضح هو غياب الكتابات النقدية الأدبية عن الصحافة السورية، إضافة إلى غياب كبير للدراسات النقدية المعمقة أو التخصصية عن صفحات المجلات النقدية التي تُعنى بالمجال الأدبي بمختلف أصنافه. لكن هذا الواقع لا يعني الغياب الكلي، فهناك من يسعى لتقديم مقالات نقدية، بالمقابل هناك من يستغل موقع الصحيفة لتقديم أفكار لها طابع المصالح الشخصية أو النفعية، ويقلل من أهمية نص أدبي ما أو مادة درامية وفنية بعد أن تحصل إحداها على صدى جيد من النقد الإيجابي، فنجد بعض ما يسمى القراءات النقدية يتحدث عن كل ما يتعلق بالمؤلف وظروف كتابة العمل الأدبي والشكل الذي كان ينبغي أن يكون عليه من دون الخوض في النص من الداخل بصورة تدفع للتوقف والتفكير: ماذا يريد أن يقول وعن أي نص يتحدث؟! بعد قراءة المادة النقدية يتبين أن للكاتب مآرب أخرى وهو السير عكس التيار للظهور والتباهي بالاختلاف، فهنا يدعو للتساؤل «أين النقاد الحقيقيون»، و«من» هم؟

سلطة مواقع التواصل
في الوقت الذي يمكن القول فيه: إن النقاد الحقيقيين غابوا عن الساحة الأدبية وهناك بالمقابل ظهور مواقع جديدة لم تكن معروفة سابقاً، وقد أتاحت للجميع فرص التعبير عن آرائهم وتقديم ما لديهم من أفكار حول الإبداعات الأدبية والفنية بمختلف أشكالها، والمقصود بذلك مواقع التواصل الاجتماعي والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، فمثلاً أثناء طرح مادة أدبية أو عمل درامي أو فيلم سينمائي أو عرض مسرحي يسهم كثيرون في تكوين الرأي العام عن هذا العمل الذي ظهر مؤخراً أو تم عرضه حديثاً، ويستطيع أي شخص إبداء رأيه بمنتهى الجرأة والصراحة من دون إعلان شخصيته الحقيقية، وهنا يكون التساؤل: ما سبب غياب النقاد المتخصصين وظهور، بل انتشار أفكار تصدر عن أناس ربما لا علاقة لهم بالنقد الأدبي أو الفني؟ بمعنى انحسار مساحة النقد التخصصي لمصلحة أقوال ووجهات نظر تكتسح المواقع العامة والصفحات الشخصية الإلكترونية.

حضور خجول
السؤال الذي يطرح: هل يمكن للجيل الشاب إعطاء أفكار جديدة يستطيع من خلالها تطوير وتجديد الأفكار المطروحة سابقاً والتي كانت ممنوعة أو ضمن دائرة الحظر مع أنها خرجت عن مسارها؟
أما بالنسبة للنقاد فيقول الناقد أحمد هلال عن غياب النقد الصحفي في صحافتنا: إن للسؤال ضفافه المعرفية الفاحصة لحركة النقد ومن ثم غيابه أو تغييبه، وذلك ما يحملنا القول: إن النقد بوصفه فعالية معرفية تستلزم مادة إبداعية لتستنبت منها أسئلتها المؤسسة بخطابها. في الواقع، يحتاج النقد إلى حوامل ومؤسسات، بل ثقافة لدى الناقد، لأن ذلك يتصل اتصالاً وثيقاً بصناعة المعرفة وإنتاجها، فهل تهتم وسائل الإعلام المكتوبة بالفكر النقدي ونشره مثلاً؟، ذلك سؤال حاسم يعني الثقافة بكل تجلياتها، وإن حضور أشكال بعينها من المقاربات على الرغم من فائدته في تحقيب اللحظة الإبداعية، إلا أنه غالباً ما يأتي مفصولاً عن إستراتيجية تعني الثقافة والفكر النقدي بآن معاً.
وأضاف هلال: نعترف بأن ثمة حراكاً نقدياً، قد يشي بحركة نقدية تستعيد عافيتها وتضاعف أسئلتها وعلى الوسائل المقروءة أن تعيد الاعتبار إلى النقود الأصيلة التي تمارس عبرها، بعيداً من ثقافة الاستسهال والارتجال والنصوص النقدية العابرة، فلا بد من معايير ناظمة تضبط الأداء النقدي وتعيد للنقد ألقه في الصحافة الأدبية بشكل خاص، واليومية منها على أهمية ما تقدمه إلا أنها مطالبة بالنوع وليس بالكم، ما يخلق فاعلية قرائية كما هو النقد بوصفه فاعلية قرائية.
وبوسعنا إلا أن نقول: إن ثمة غياباً كاملاً أو غياباً ناقصاً إنما ما بين بين، مع تواتر، أطياف لنقود جلها يعكف على المتابعة وهي شأن يومي، أو الإضاءة نظراً للمساحة المعطاة، فكيف نعيد الألق للنقد في الوسائل المقروءة، بعيداً من هجرته إلى صفحات التواصل الاجتماعي متطيراً من القيمة والمعيار إلى الذائقة والانطباع، فلابد إذاً من تحليل أسباب الغياب أو التغيب أو الحضور على استحياء بدراسة فاحصة حتى يصبح حضوراً ناجزاً، يعني سيرورة الإبداع، وثراء المعرفة في عصر رقمي يسعى إلى الترابط رغم تشظي المعرفة، وتفاوت الاختصاص، وحضور قليل وغياب أكثر، ربما يعبر عن واقع الثقافة بوصفها بنية وذهنية وأنساق وواقع متغير متسارع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن