ثقافة وفن

من كرونوس إلى كافكا والحضور الأبوي … صور بين التحليل والتصوير الواقعي… القوة والطاعة للمجتمع وتقاليده

| هبة اللـه الغلاييني

في تاريخ الأدب الممتد من زمن كرونوس وحتى زمن كافكا وما بعده، كان الأب في الأدب مخلوقاً سيئاً أو محرضاً أو شريراً، غير مهتم بأبنائه، أو ضحية قتل قبل أن يمارس دور الأبوة، أو باحتمال أفضل كان أباً بلا صوت أو من دون عائلة، وهذا لا يعني قطعاً أن هناك تعمداً أو قصدية على شيطنة الأب أو إظهاره بمظهر سيئ أو ضعيف.

بنظرة عامة على مسرح شكسبير وريث المسرح الإغريقي، يظهر في مسرحية «هاملت» شبح الأب الذي لم يمارس دور الأبوة على ابنه، بل كان شبحاً محرضاً داعياً للثأر والانتقام، ومُدخلاً هاملت الابن في هذه الدوامة التي ستنتهي بمقتله.
يقول شبح الأب لهاملت ملقياً عليه كلمات تدفع للانتقام: «إن لم تتحرك لمثل هذا الخطب لأنت أشد بلادة من العشب الغليظ الذي يسري فيه العفن على شاطئ نهر..».
يلقي الأب هذه الكلمات ويختفي من المسرح ومن حياة هاملت أيضاً.
لكن، أي كلمات هذه وجهها قلب هذا الأب لابنه وأي رفض بعدها سيكون مبرراً؟ حسناً. لنستعيد هنا مقولة كافكا السابقة «فإن لم تستجب هذه الكائنات لهذه المطالب كان مصيرها اللعنة أو الالتهام».
بعد سنوات يكتب شكسبير رائعته «الملك لير» وفي أحد الحوارات تتحدد العلاقة بين لير وبناته على لسان البهلول «بنات يشأن أن يجعلن منك أباً مطيعاً».
لكن قبل وصف بهلول لبنات الملك، لم تكن شخصية لير الأب شخصية سوية، كان أباً نزقاً محباً للمديح ومنافقته، ولم يكن يحمل شيئاً من حكمة الملوك، لذلك لم يعط ابنته الصغرى التي تحبه أي نصيب في مملكته، لأنها ببساطة لم تنافقه.
لنعد مرة أخرى إلى جملة بهلول «بنات يشأن أن يجعلن منك أباً مطيعاً»، وسنلاحظ تغير شكل الأب عند شكسبير بين المسرحيتين، أعني هاملت ولير، في الأولى كان الأب قوياً ومحرضاً لابنه على أخذ ثأره، على حين في الثانية، كان لير برغم مقاومته العنيفة، مهزوماً من ابنتيه اللتين تحاولان السيطرة عليه.
وفي القرن التاسع عشر وبالتحديد عام 1813، كتبت جين أوستن رواية «كبرياء وهوى». في الصفحات الأولى يطلق السيد بينيت جملة عن رؤيته لبناته «إنهن كلهن سخيفات، وفارغات الرؤوس، قدر البنات الأخريات، إلا أن ليزي أذكى من أخواتها».
وعلى مر أحداث الرواية، لم يكن السيد بينيت أباً ذا دور مهم في الأحداث، لم يكن صانعاً إيجابياً لها أو حتى سلبياً. بالأصح كان أباً فاقد القدرة على إدارة البيت، لكنه مع ذلك لم يكن أباً شريراً.
وفي عام 1834، كتب بلزاك رواية «الأب جوريو» ظهرت شخصية الأب المضحية بنفسها هذه المرة، كان الأب يبذل كل جهده، صحته، ماله، من أجل سعادة ابنتيه، حتى مات وحيداً من أجل أن تعيش البنتان النزقتان في مستوى معيشي ممتاز، ولم يطمع في المقابل بأي شيء سوى بحبهما الذي لم ينله، فيموت في النزل وحيداً.
لكن جوريو رغم طيبة أبوته، لم يخرج من كونه أباً ضعيفاً خاضعاً لرغبات بناته، ولم يقاوم حتى بكلمة، كما فعل سابقاً الملك لير.
أما تشارلز ديكنز في رواية «ترنيمة عيد الميلاد» التي كتبها عام 1834 أيضاً، ومن خلال شخصية مساعد سكروج الكاتب بوب كراتشيت، بدا أن هناك تحسناً ملحوظاً في صورة الأب، كان كراتشيت أباً جيداً، ولأول مرة بالمعنى الإيجابي للكلمة.
كان ديكنز بصورة عامة كاتباً أخلاقياً محباً للأب، حيث جعل مانيت في رواية «قصة مدينتين» شخصية أب محب لابنته.
ومع أنه ليس بأب حقيقي، فإنني لا أستطيع تجاوز شخصية «جان فالجان» في رواية «البؤساء» التي كتبت عام 1862، لأنه بالفعل كان يحمل كل مشاعر الأبوة الصادقة تجاه كوزيت. كان جان فالجان أبا، لكنه مع الأسف بلا عائلة أو أولاد.
وفي رواية «المسخ» لكافكا، كان الأب من أبشع الشخصيات، خلال أحداث اليوم الأول الذي تحول فيه جريجور لحشرة – يناقش الأب الوضع المادي للعائلة، ضمن أحداث ذلك اليوم الأول شرح والد جريجور الوضع المالي للأسرة والآمال التي يتعلق بأذيالها كل من والدته وشقيقته. إني أتساءل عن المشاعر التي يحملها أب، أو عائلة بظروف كهذه. وفي الوقت نفسه تستطيع هذه العائلة أن تشرب وتناقش وضعها المادي برغم هذا الحدث المزلزل، حيث لا أحد يهتم بأن البطل قد تحول فعلاً ومات كحشرة.
بالمجمل، كان القرن العشرون وبعد صدمتي الحرب العالمية الأولى والثانية وظهور مرحلة ما بعد الحداثة، قرناً سحب من الأب بوصفه ممثلاً للسلطة العقلانية أغلب أدواره، وعادت روح غونريل وريغان بنات الملك لير وبقوة للسيطرة وجعله أباً مطيعاً، لكن هذه المرة ليس في الأدب فقط بل في الحياة.
أيضا، لا يمكنني أن أنسى شخصية جاروسلاف في رواية «المزحة» لكونديرا، ذلك الأب المخدوع من زوجته فلاستا وابنه فلاديمير. أصبح جاروسلاف غريباً في بيته الذي لم يكن يحبه. «كنت أكرهها وأكره كل مطبخها، مطبخها النموذجي الحديث، بأثاثه الحديث، وصحونه الحديثة، وكؤوسه الحديثة». كان غريباً ليس مع زوجته فحسب بل مع ابنه أيضاً برغم كل محاولاته التقرب منهما. وتتحدد غربته مع ابنه في أنه سيفقد حتى التواصل اللفظي معه «كان يجتمع دوماً بأصدقاء كي يغنوا ما لا أدريه من عبارات أميركية مكررة».
هل نتخيل تسلسلاً لصورة الأب في الأدب من شخص متشبه بالآلهة، وقاتل محرض للقتل، إلى رجل سيئ يدافع عن شخصيته أمام أولاده، ثم أب طيب حتى وإن كان بلا صوت، ثم يعود وحشاً بلا مشاعر، لينتهي غريباً منبوذاً.
فهل هناك صورة مسيئة أو ممزقة لشخصية الأب أكثر من أن يكون غريباً في بيته؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن