قضايا وآراء

عن حرب التحرير التي أعلنها نصر الله

| فارس الجيرودي

اعتدت أن أنصح المعارف والأصدقاء الراغبين في فهم ألغاز السياسة في منطقتنا بالعودة إلى حدثين فارقين ما بعدهما ليس كما قبلهما، يفسران كل ما حدث ويحدث في إقليمنا منذ نحو أربعة عقود حتى اليوم، مع ذلك يجري التعتيم عليهما وتهميشهما إعلامياً، الحدث الأول تفجير مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور عام 1982 والذي أودى بحياة 100 ضابط وجندي إسرائيلي باعتراف العدو، ومن ثم قرار الجيش الإسرائيلي الانسحاب والانكفاء إلى الشريط الحدودي، ما مهد لاحقاً لطرده بلا قيد أو شرط من لبنان عام 2000 وهي سابقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
والحدث الثاني: تفجير مقر قوات المارينز في بيروت عام 1983 تلك القوات التي جاءت لمساعدة الإسرائيليين، حيث أودت العملية بحياة 299 جندياً أميركياً وفرنسياً، وما تلا ذلك من فرار المارينز من لبنان. العمليتان السابقتان كانتا استشهاديتين نفذتهما مقاومة شعبية لبنانية مدعومة من دولتي إيران وسورية، وكانتا برهاناً قاطعاً على انكسار الأداة الأساسية المستخدمة لإدامة الهيمنة الاستعمارية على منطقتنا، أي الجيوش الغربية المتسلحة بالتفوق التكنولوجي، وكل ما جرى منذ هذين الحدثين إلى اليوم كان محاولات دؤوبة للتحايل على الواقع الجديد باستخدام مختلف الوسائل من مفاوضات ومؤتمرات للسلام إلى ضغوط اقتصادية وحروب وثورات ملونة.
وكمثال على ذلك: ظل الملف الرئيس على أجندة السياسة الخارجية الأميركية طوال عقد التسعينيات، محاولة جذب سورية إلى معسكر حلفاء واشنطن عبر مفاوضات السلام المكوكية والقمم الرئاسية المتتالية، مما كان سيسمح، لو أنه تم، بالإجهاز على المقاومتين اللبنانية والفلسطينية وبعزل إيران ومحاصرتها، فيما انتقل الجهد الأميركي بعد اليأس من إمكانية إخضاع سورية عبر المفاوضات إلى محاولة كسر إرادتها عبر تشديد العقوبات والحصار والحروب الإعلامية طوال العقد الأول من الألفية الجديدة، وانتهى الأمر بحرب شرسة بالوكالة استخدمت فيها جماعات التكفير الإرهابية منذ تسع سنوات إلى اليوم.
حتى عملية غزو العراق عام 2003 يمكن ربطها بتداعيات الحدثين السابقين، حيث كان مقدراً لتلك الحرب أن تؤدي لاحقاَ لسقوط سورية وإيران وفق نظرية حجارة الدومينو التي وضعها الإستراتيجي الأميركي برنارد لويس، أما الاتفاق النووي الأخير مع طهران فقد اتضح أنه لم يكن سوى محاولة جديدة فاشلة لترويض إيران، وذلك أملاً بتمديد عمر الهيمنة الغربية على منطقتنا.
وجاء استذكار أمين عام حزب الله حسن نصر اللـه لحادثة طرد الأميركيين من لبنان عام 1983 خلال خطابه المفصلي الذي أعلن فيه عن قرار كبير اتخذه محور المقاومة بجعل واقعة اغتيال الفريق قاسم سليماني مناسبةً لإطلاق حرب تحرير تخرج القوات الأميركية من منطقتنا، ليؤكد لي هذا الاستذكار للحادثة صحة السياق السابق الذي افترضته لتفسير مسارات السياسة والحرب في منطقتنا، لكن هل يبدو قرار وضع ملف الوجود العسكري الأميركي في المنطقة العربية على نار حامية في هذه اللحظة التاريخية قراراً حكيماً؟ وما فرص نجاح حرب التحرير التي أعلن عنها أمين عام حزب الله؟ وما إمكانات الرد الأميركي؟
في الواقع لقد اختصر الانتقال الأخير للسياسة الأميركية في منطقتنا إلى مرحلة النهب العلني والابتزاز عبر استخدام سياسة الحصار والتجويع، الكثير من الجهد الذي كانت جبهة المقاومة ستبذله لتبرير إطلاق حرب تحرير شعبية ضد الوجود العسكري الأميركي، فالخطاب الوقح الذي يطلقه الرئيس الأميركي دونالد ترامب عندما يعلن عن رغبته في السيطرة على نفط العراق «زاعماً أنه ليس هناك عراق ولا عراقيون»، وإشهار نيته السيطرة على النفط السوري، وتبشير وزير خارجيته مايك بومبيو بانهيار الاقتصاد اللبناني، كل ذلك لم يترك أمام شعبنا كثيراً من الخيارات بين انتظار الموت جوعاً وبين المقاومة.
من ناحية أخرى لا يعبر تخلي السياسة الأميركية عن عدة النصب التقليدية التي كانت تغلف أهدافها الاستعمارية، عن زيادة في منسوب القوة الأميركية كما يعتقد البعض، بل جاءت تلك الوقاحة في الحقيقة كنتيجة لفشل محاولة إعادة ترتيب المنطقة بما يتناسب مع المصالح الأميركية عبر حروب الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن حيناً، ومن ثم عبر الثورات الملونة التي دعمتها إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما حيناً آخر، لقد خسرت الولايات المتحدة في حروب الشرق الأوسط 7 ترليونات دولار كما صرح ترامب، وأصبح اقتصادها على شفا الإفلاس، «جميع وسائل الإعلام الأميركية تتحدث عن أزمة 2020 الاقتصادية التي يتوقع لها أن تكون بعشرة أضعاف حجم أزمة عام 2008» ومن ثم صار خطاب ترامب الذي يبشر بالسيطرة على النفط وبنهب الثروات، صار حاجة داخلية أميركية لتبرير الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط أمام الرأي العام داخل الولايات المتحدة، فيما اختفى الحديث القديم عن نشر القيم الديمقراطية من الخطاب الأميركي، لقد تخلى الوحش أخيراً عن مكياجه ليظهر على حقيقته.
في الواقع لم تحقق القوة الأميركية خلال العقود الأربعة الماضية منذ عملية طرد المارينز عام 1983 تقدماً إلا في ميدان واحد هو ميدان السيطرة الثقافية والفكرية، وذلك من خلال الهيمنة على معظم وسائل الإعلام التقليدية وما أضيف إليها من وسائل التواصل الاجتماعي، وهو الميدان الذي يتم عبره التحكم بصناعة الأفكار وباتجاهات الرأي العام، هذه السيطرة مكنت واشنطن ووكلاءها الإقليميين من التحكم بعقول طيف واسع من الشباب ودفعهم إلى إشعال حروب وصراعات جانبية وثانوية بعيداً عن التناقض الرئيسي مع منظومة النهب الدولية، لكن الأحداث أثبتت أن لهذا التحكم والتلاعب سقفه وحدوده التي لا يمكن تجاوزها.
بالمقابل فقدت الولايات المتحدة قدرتها على شن الحروب المباشرة وذلك بعد الاستنزاف المؤلم الذي تعرضت له قواتها في العراق على يد المقاومة المدعومة من سورية وإيران، ولا يزال تحذير وزير الدفاع الأميركي خلال ولاية جورج بوش الابن الثانية، روبرت غيتس، من «أن أي رئيس أميركيّ يفكّر مرّة أخرى في غزو دولة في الشرق الأوسط، يحتاج إلى فحص في قواه العقلية»، لا يزال هذا التحذير يرن في أذن صناع القرار الأميركيين، في السياق ذاته تجلس واشنطن اليوم للتفاوض مع حركة طالبان من أجل ترتيب الانسحاب من أفغانستان غير مكترثة بالحكومة التي نصبتها في كابول، وذلك بعد أطول حرب في التاريخ الأميركي استمرت 19 عاماً، وكان لافتاً هنا نعي الحركة المتطرفة في مذهبيتها للفريق سليماني الذي اتضح أن نشاطه شمل دعم طالبان ضد الاحتلال الأميركي.
على العكس من ذلك تضاعفت القدرات العسكرية لأعداء واشنطن في الشرق الأوسط، فإلى جانب الاستشهاديين صار محور المقاومة يمتلك قدرات صاروخية نقطية دقيقة تشهد عليها ضربة أرامكو التي أصابت عصب الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ذلك الهجوم الذي ما زال المحللون العسكريون الغربيون محتارين بشأن الأسلحة التي استخدمت فيه، لتأتي عملية قصف قاعدة عين الأسد مؤكدةً القدرة الإيرانية على إخراج القواعد الأميركية في منطقة غرب آسيا من الخدمة.
يحدث هذا فيما القطب الروسي الصيني الصاعد يستعد لوراثة الدور الأميركي في كامل قارة آسيا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وذلك عبر منظمة شنغهاي، لتتكامل حرب التحرير التي أعلنها أمين عام حزب اللـه مع معلومات عن قرار روسي صيني إيراني بجعل آسيا نظيفة من الوجود الأميركي خلال عشر سنوات.
لهذا ولغيره من الأسباب يحق لنا أن نتفاءل بالوعد الجديد لصاحب الوعد الصادق، وأن نأمل لأول مرة منذ عقود بمنطقتنا حرة من الهيمنة الاستعمارية الغربية التي لم تجلب لنا إلا الخراب والموت.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن