قضايا وآراء

شمس الأميركيين في المنطقة آيلة للغروب

| عبد المنعم علي عيسى

في خلال الأسبوع الماضي أشارت العديد من التقارير إلى حدوث توترات روسية أميركية عدة في مناطق الشرق السوري، وفي التفاصيل ذكرت تلك التقارير أن دورية عسكرية أميركية كانت قد اعترضت قافلة روسية على الطريق الموصلة ما بين مدينتي المالكية (ديريك) والرميلان يوم الثلاثاء 21 الشهر الجاري، بالتزامن مع إعلان موسكو نشر منظومة دفاع جوي متطورة في مطار القامشلي، في حين أشارت وكالة «الأناضول» التركية إلى أن القافلة الروسية كانت متجهة إلى الرميلان لإنشاء قاعدة عسكرية فيها، تلا ذلك بعد أيام اعتراض دورية أميركية لقافلة روسية أيضاً جرى عند محطة وقود حطين بالقرب من قاعدة تل بيدر التي انسحب الأميركيون منها في تشرين الأول الماضي، أعقبه تحليق لطائرات أميركية في سماء الحسكة وهو الحدث الذي لم يسجل سابقة له منذ الوجود العسكري الأميركي في الشرق في العام 2014.
يشير السياق السابق إلى حال من الاحتقان الأميركي لا تمتلك منافذ صالحة للتنفيس، وربما يخفي في مضامينه شعوراً بأن شمس ذلك الوجود باتت آيلة إلى المغيب، وهو في مطلق الأحوال لا يمثل تعبيراً عن إحساس بفائض القوة وإنما شعور بانعدام مقومات البقاء والاستمرار.
من الراجح، بل شبه المؤكد، هو أن ما ذكرته وكالة «الأناضول» حول نوايا القافلة الروسية سابقة الذكر، هو أمر صحيح، فالقوات الروسية سعت إلى تعزيز وجودها في الشرق السوري منذ أن أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب تغريدته الشهيرة في 6 تشرين الأول الماضي معلناً فيها انسحاب قواته من الحدود السورية التركية مفسحاً المجال أمام تمدد تركي بدءاً من اليوم التالي لهذا الإعلان الأخير، وهو التمدد الذي توقف بعد أربعة عشر يوماً، لكن بعد أن أرسى واقعاً جديداً ما بين رأس العين وتل أبيض بضوءين أخضرين أميركي وروسي، لكن من المؤكد أن ذلك السعي الروسي كان قد اضطر إلى اتباع تلونات أخرى في مقاربته للواقع الجديد الذي فرضه تصريح ترامب في 27 تشرين الأول الماضي والذي أعلن فيه عن نيته تعزيز وجوده في مناطق النفط السوري شرق دير الزور مضيفاً: إن «بلاده ستأخذ حصتها من النفط السوري»، مع لحظ أن ذلك التصريح يضمر غير ما يظهر.
سعت موسكو ومنذ الخريف الماضي بكل ما حمله هذا الأخير من تطورات مهمة في ملف الشرق السوري، إلى أمرين اثنين: أولهما كبح جماح الأتراك وإجبارهم على وقف طموحاتهم كي لا تتحول من درء «الأخطار الأمنية» إلى «توسع جغرافي» غير تقليدي بمعنى أنه من نوع آخر يتمثل بإحداث تغييرات ديموغرافية في مناطق السيطرة التركية الجديدة من شأنها أن تكون امتداداً لـ«الإرادة» التركية في الداخل السوري عبر مكونات سورية موالية لها، وثانيهما دعم ومساندة الجيش السوري على قطف ثمار التحولات الجارية في الشرق بدءاً من مطلع الخريف الماضي، وفي غضون ذلك الدعم ظهرت حالة التحفز الروسية واضحة تجاه إبقاء قواتها في حالة استعداد دائم لملء أي فراغات يمكن أن تحدث في أية لحظة تبعاً لمتغيرات في السلوك الأميركي أو تبعاً للتطورات التي يشهدها المشهد العراقي الضاغط الآن باتجاه إخراج القوات الأميركية من العراق وآخرها المليونية التي دعا إليها زعيم تيار الصدر يوم الجمعة الماضي، والتي ستقرؤها واشنطن من دون شك على أنها تأكيد على وحدة العراق وعلى مشروعية المقاومة ضد الوجود الأميركي الذي استند في السابق إلى توافق شيعي كردي، وهاهي الثنائية السابقة تفقد جناحها الأهم ما يشكل إيذاناً بقرع أجراس الرحيل، وفي هذه الحالة فإن حدثاً من هذا النوع، أي خروج القوات الأميركية من العراق، فيما لو حصل مع ترجيح عامل حدوثه، فإنه سيفرض واقعاً جديداً على الوجود الأميركي في سورية، ومن المؤكد أن هذا الوجود الأخير سوف يصبح مستحيلاً، حتى على المدى القريب، انطلاقاً من أنه يعتمد في بقائه على دعم لوجستي، يطول أدق التفاصيل، تقدمه القواعد الأميركية الموجودة في العراق، وبانتظار تلك الحالة فإن كلاً من دمشق وموسكو ترقبان جيداً التحولات الحاصلة في المزاج الشعبي، والعشائري على وجه التحديد، السائد في مناطق الشرق في أعقاب دخول «قانون قيصر» حيز التنفيذ الذي دخله حتى قبل أن يوقعه الرئيس الأميركي منتصف شهر كانون الأول الماضي، مع بروز نزعة تصعيدية أميركية أيدها الاتحاد الأوروبي تتوافق مع سياقات القانون السابق بعد أن أعلنت واشنطن نيتها فرض عقوبات أخرى جديدة ضد دمشق، ومن دون شك فإن تلك الحالة سوف تخلق واقعاً جديداً في المزاج الشعبي انطلاقاً من أن هذا الأخير سوف يحمّل واشنطن بشكل مباشر تبعات تدهور الأوضاع الحياتية والمعيشية، وحال كهذا يجعل من الرهان على حراك شعبي رهاناً واقعياً انطلاقاً من أنه سيؤدي إلى خلق حالة ضاغطة على الوجود الأميركي، وهو سيستمد أواره من نظير له أضحى واقعاً على الضفة العراقية المقابلة ومن الصعب على واشنطن تجاهل كلتا الحالتين، وفي ضوئهما بات موقع ترامب على «تويتر» محط ترقب بانتظار تغريدة تقول بأن القوات الأميركية هي الآن بصدد وضع خطط جديدة لإعادة انتشارها من جديد.
هذا التحليل لا يستمد مشروعيته فقط من الأحداث سابقة الذكر فحسب، وإنما يستند أيضاً إلى لحظ تغير ملموس في الفكر الجيوبولتيكي الأميركي الراسم بدرجة أولى للإستراتيجيات الأميركية، فسلوكيات ترامب منذ أن وطئت قدماه البيت الأبيض أظهرت قراراً بإحالة «مبدأ كارتر» الصادر في كانون الثاني 1980 إلى التقاعد، فالرئيس الأسبق كان قد اعتبر في مبدئه سابق الذكر أن الخليج العربي يمثل جزءاً من المصالح الحيوية الأميركية، وأن أي محاولة للسيطرة عليه تستدعي استخدام القوة المسلحة الأميركية للدفاع عنه، هذا المبدأ غابت مخرجاته عن سياسات ترامب تماماً، وهو ما تدركه دول الخليج جيداً بدليل إظهارها لتموضعات جديدة برزت في تقارباتها مع أقطاب صاعدة مثل روسيا والصين، وعليه فإن الرهانات الروسية على خروج أميركي قريب من سورية تبدو واقعية بدرجة كبيرة، واللافت هو أن المبعوث الأممي غير بيدرسون يبدو قريباً جداً إلى تلك القراءة، فقد نقلت عنه وكالة نوفوستي بعد لقائه وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو يوم الخميس الماضي قوله: إن وجود خمس قوى أجنبية في سورية هو تحد كبير داعياً إلى «حل هذه المشكلة»، ولنا هنا أن نقدر حرج الديبلوماسية التي فرضت على بيدرسون عدم الفصل ما بين تلك القوى التي بينها من جاء بطلب من حكومة دمشق وأخرى جاءت عبر تدخل غير مشروع انطلاقاً من أن ذلك الإفصاح من شأنه أن يمثل عائقاً كبيراً في أدائه لمهامه كمبعوث أممي ميسر لحل الأزمة السورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن