بعد كل الذي جرى، واختلاف العقول المحلية ناتج عن عدم اطلاعها على مخرجات لجان الطوارئ اللا منظورة، التي يفترض أن تتابع الحاصل في الشوارع العامة، وما يتداولونه والغياب التام للخطوات السريعة والإجراءات الاستثنائية التي تهدف إلى تخفيف حدة الأزمات المتعاقبة من الحاجة الغذائية إلى تنوعات الوقود، إلى ارتفاع الأسعار، وصولاً إلى تذبذب الدولار وانهيار العملة الوطنية.
لقد بات المجتمع يتأرجح بين الخط الأحمر والأسود، والمجتمع متعلق بخط الفقر، لا يريد أن يسقط عنه إلى ما دونه، ولم يعد حلمه الغنى، ولا يهمه مكافحة الفساد، بل أخذ يتفكر بأن كل ما واجهه عبر تلك السنوات العجاف متى سينتهي، وهل تبوح بأزمات مضافة، يستشعرها وكأنها مكافأة على صموده وصمود جيشه مع قائده الرئيس، ورغم يقينه بأن استمراره يحتاج إلى صموده وإعادة بنائه وإصلاحه للمادي واللا مادي يزيد يقينه بأن الاستمرار أكثر من مهم له، فلم يهن عزمه، ولم يلن قراره، ولن يهدأ أو يستكين حتى دحر الإرهاب وكسر شوكة داعميه، ومؤكد أن أي مجتمع يدرك حجم العمل المناط بالمؤسسات والحكومة وخضوعها للنجاح هنا أو الفشل هناك، وأنه ممكن جداً أن تفلس فكرياً وإدارياً وحتى مالياً، حالها حال المؤسسات الخاصة والأفراد، بعد أن تكون استنفدت الحلول، وابتعدت عن معالجة الفشل، فإن لم تقدر على إصلاح شأنها والنهوض من جديد بقوة، فمن الضروري إيجاد البدائل، والفرص لديها كثيرة ومتاحة، لكن تحتاج إلى مبادرات، أهمها البحث عن الانفتاح في العلاقات مع الدول وفرز السياسي عن الاقتصادي، فالعالم تغيّر، ولا يمكن الاستمرار في الطرق الموصدة أو الموصلة إلى الفشل، فالصورة المشاهدة والمقروءة الآن نمطية تقليدية وحتى سلبية، والذي ينبغي أن تستهدفه من الإدارات والحكومات يمكن تفعيله في بنية العقل الحكومي الذي عليه أن يأخذ بعين الاعتبار نظم بناء المجتمع وخدمته واقعياً وإستراتيجياً بعيداً من الشخصية والفردية الحاملة للفوقية المرفوضة، وأن يكون اعتبار المواطن نداً منطقياً وقادراً على المبادرات الفعالة، وألا تنظر الحكومة وإداراتها إلى مواطنيها على أنهم دون، فالمسؤولية العاقلة تسعى لتصحيح الصورة وإزالة الفوارق العملية إن أرادت أن يكون لها إنتاج إيجابي وعمل إبداعي وانتماء خلاق وأداء مميز، وليكن الإصلاح والعقاب والثواب ضمن خط واضح، لأن من يأمن العقاب يَفسد، ومن ثم يُفسد كما هو حال اليائس البائس الذي يؤمن بالفشل فيفشل.
الأزمات غير مقبولة لأي عقل إنساني، رغم أن العقل من يفتعلها، وبالمراجعة جميعنا يعلم أن عقداً سلبياً أسقط على منطقتنا محولاً أجواءها إلى عاصفة وساخنة، أشعل الحرائق في كل دولها، وعلى كل ذرة تراب فيها إرهاب واغتيالات وتعديات على الحقوق، وثورات تدمير الواقع العربي بإيجابياته وسلبياته، المسبب عقل الغزو الأمريكي والصهيوني، الذي بدأ من العراق، وسار عبر كل الدول العربية والإسلامية، وتمركز بين العراق ولبنان، الكل يعاني من دون استثناء من هذا العقل الاستعماري، الذي لا يتوقف أبداً عن الغزو، مستخدماً كل السبل التي يبدعها عقل التسلط والغزو على الأمم مشاغلاً العالم برمته من خلال أزماته التي أوقفت الجميع على شفير الهاوية عبر مواجهات مباشرة وغيرها، تهدد فعلاً لا قولاً السلم والأمن الدوليين.
هل من حلول للأزمات المتراكمة وأهمها تفكيك العقول الميليشياوية المحمولة نسبياً في ذهنية أبناء الشرق الأوسط والمدعومة بتدخلات خارجية؟ منها النائمة ومنها المتوثبة ومنها الفاعلة، وجميعها تريد الانقضاض على كل شيء، والأخرى الهجرة والنزوح الداخلي والخارجي والمصالحات التي لم تصل حتى اللحظة إلى الواقعية، لأنها مغلفة بالعدائية الداخلية؛ الإعمار ومبادرات أبناء المجتمع وانتظار الحكومات في إبداء الرأي السديد، الفساد ومكافحته، الدولار والتلاعبات المحيطة مع ضعاف النفوس اللا وطنية، وكثير كثير من القضايا المأزومة التي تدعو كما أسلفت لتشكيل خلايا عمل حقيقية وتخصصية، لا تستند إلى رأي فردي، بل إلى الرأي الوطني المحتاج إليه في الحاضر، ويستمر إلى المستقبل، والذي يجب أن يستهدف الوطن والمواطن في آن، فإنقاذ الوطن بما فيه من خلال رؤية موحدة وممر يفتح ليدخل منه الجميع مضبوط أمنياً، بعد أن يكسر أسوار كل المحميات المشبوهة.
هل يمكن الاستمرار ضمن الطرق الشائكة، والعالم يتجه إلى الأمام، إلى الانفتاح، إلى التغيير، وكل شيء يتغير حتى المناخ يتدخل في صناعة الأزمات إلى جانب الإرهاب والقرصنة والوقاحات السياسية وأزمات المياه العالمية ومحاكمة عزل ترامب الكوميدية وأجراس «بيغ بن» متوقفة كشاهد عنصري في زمن الانتقام من كل شيء، واحتواء نووي إيران الذي يؤججون به العالم.
إذاً نحن متهمون عالمياً، وأدواتهم أكثر من خطيرة، وأهمها منصات التواصل الاجتماعي، هذه التي غدت إدماناً بين أفراد الأسرة الواحدة والمجتمع الواحد والمجتمعات، وتحولت إلى أدوات تصفية حسابات بين أصحاب اللا وعي والمارقين والحاقدين والمتلاعبين، ولم تستثنِ العامة من المتعلمين وحتى المثقفين، منهية الحوارات الوطنية البناءة، منتهكة إبعاد الآخر إلى درجة البشاعة من كل هذا، وفي ظل تسارع الأزمات يحضر دور العدالة في حياة البشر، لكونها حاجة يومية وقيمة عليا تعكس الشعور بالأمان وضمان الحال والمستقبل والاهتمام بها يشكل مقومات الدولة التي تسعى إلى استقرار مجتمعها.
المجتمع يدق ناقوس الخطر، لأن قلبه وعقله على الوطن ومعه أمام المتاجرين بالشعارات ومتنطّعي السياسة والمشتاقين لكراسي السلطة، هذا المجتمع الذي رأى بأم عينه إنجازات جيشه وقائده المتحققة على الأرض وفي المحافل الدولية، وعمله الحثيث للوصول إلى دولة القانون لتحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين معيشة المواطن وإعادته للأمن والأمان إلى كامل ربوع الوطن رغم كل ما يجري في المنطقة، وخاصة التي تحيط بوطننا تحاول إسقاط أزماتها علينا.
الأزمات غير مقبولة، ويجب إنهاؤها والعمل حثيثاً على إجهاض أدواتها وإفنائها، فالجهل مع الفقر يؤدي إلى الإجرام، والغرور مع الغنى يساوي الفساد، والأمية الفكرية مع الحرية تعمم الفوضى، وعدم الخبرة مع الإدارة تنجز التأخر والخسائر، واللاوطنية مع التديّن تنبت الإرهاب، ومن لا يميز بين السخرية والمأساة فهو إما معتوه وإما جبان، فهل مجتمعنا غير قادر على النهوض؟ أقول أجل، قادر، إنما يحتاج إلى تنفيذ ما يريده قائد الوطن من الإدارات والحكومة وممثلي الشعب، فالخطأ بمسماه لا يمكن التعمية عليه طويلاً، والحلول المؤقتة غير قادرة على تحويل الظلام إلى ضوء، والأرقام الدقيقة لا تكذب، والكذب لا يستمر، وإن طال زمنه.
يتحدث التاريخ القديم والحديث أن الإعلام صناعة وخبرة مؤثرة، وإحدى أهم أدوات تحقيق التوازن في المجتمعات، ومنه يحدث امتلاك المجتمع لما يدور حوله، ويغدو على علم جيد بموقفه، وتصرفاته تدل على نجاحه أو فشله، فالتخطيط الاقتصادي وعدم القدرة على تسليط الضوء باتجاه الخلل يربك السياسة، ويؤخر الخلاص، وهذا ما يريده أعداء الوطن، ويعملون عليه، وللخلاص من كل ذلك أرى أن الاستثمار في الموارد البشرية يكون من خلال تعزيز الكفاءة الإدارية للحكومة وملحقاتها وفق متطلبات العصر، حيث يدعو لتعزيز مبدأ تكافؤ الفرص وفق معايير تستند إلى الخبرات العلمية الكفؤة والأداء الإنتاجي واستبيان المواهب الشابة وإيلاء العناصر الخلاقة والإبداعية والرعاية والاهتمام والحفاظ عليها وتطويرها وتوفير متطلبات استقرار المجتمع مع الحفاظ على المكتسبات، فالفرص متاحة جداً الآن، فإذا بنينا بشكل سليم لا يمكن للأزمات القدوم من جديد، وهذا ما يمنح نهاية مشرقة لما نحن فيه، فالسلام يحتاج إلى أبناء أوفياء وقوى حقيقية تحميه أمام ما يجتاح العالم من أزمات ومن تبعات الأزمات.