تاريخياً كان من الصعب التنبؤ بمسارات العلاقات الروسية التركية في مراحلها المختلفة منذ صراعات الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، وحربيهما المدمرتين في القرن التاسع عشر، واللتين انتهتا بتحلل الإمبراطوريتين خلال العقدين الأولين من القرن العشرين، وتحولهما إلى دولتين جديدتين، هما: الاتحاد السوفييتي، والجمهورية التركية. وظلت الخلافات والمشاكل قائمة بين الطرفين، على خلفية انضمام تركيا إلى حلف الناتو، واستمرار روسيا على رأس حلف وارسو الذي ضم الاتحاد السوفييتي وبعض الدول الأخرى.
اليوم باتت هذه العلاقة أكثر تبلوراً واتضاحاً رغم تناقض الأجندات والتوجهات، إلا أن التحولات والتغيرات الإستراتيجية التي شهدها النظام الإقليمي وتغير موازين القوى والتحديات والتهديدات المشتركة والتقاطع في المصالح ببعض الملفات شكلت أهم محددات التعاون مابين موسكو وتركيا، وفرضت واقعاً متطوراً في العلاقات يستند لحاجة الضرورة، وأسست لمرحلة جديدة في العلاقة من المؤكد أنها لن تشهد أي صدام مباشر بالمعنى العسكري ولكن قد تشهد كباشات ومناورات سياسية تتيح لكل طرف الاستفادة من قدرات الآخر لتوسيع نفوذه وبشكل لا يصب بمصلحة الولايات المتحدة وفي الوقت ذاته تتضمن تطوراً في العلاقات الاقتصادية بمواجهة العقوبات الأميركية وتكون نواة استكمال للمشاريع الحيوية ذات التأثير السياسي.
لذلك فإن تقارب العلاقة بين الدولتين محكوم بعوامل متعددة يمكن تصنيف أهمها وفق مسارين:
– توسيع النفوذ والتأثير الإقليمي والدولي: رغم أن روسيا الاتحادية على يقين تام بأن تركيا جزء من حلف شمال الأطلسي وتنفذ سياسته في كثير من الأحيان، إلا أنها استفادت من التدخل التركي في سورية وليبيا ومن توتر العلاقة بين أنقرة وبروكسل وبين الأولى مع واشنطن فيما يتعلق بالحلم الانفصالي الكردي، لمقارعة «ناتو» ومن خلفه واشنطن ولكسر إطار سياسة الاحتواء الذي سعت الأخيرة لتطبيقه واللجوء إليه للمرة الثانية انطلاقاً من تأزيم الوضع الأوكراني.
– ففي الملف السوري والذي شهد قلباً للمقاربة من وضعية الخصومة والعداء بعد إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا واغتيال السفير الروسي بأنقرة، إلى حالة التعاون، وإن كان هشاً، عبر «مسار أستانا» و«اتفاقيتي سوتشي»، سعت موسكو لاحتواء تركيا بالدرجة الأولى ومحاولة تحويلها من فاعل سلبي مؤزم للأزمة السورية إلى شريك بمسار الحل أو على الأقل التقليل من حجم دورها بالدرجة الثانية، كما أن موسكو سعت لتكريس حالة الخلاف التركي الأميركي حول القوى الكردية بما يفقد واشنطن القدرة على توظيف «قوات سورية الديمقراطية – قسد» لإطالة الحرب واستنزاف المقدرات السورية ويدفع أنقرة لتفعيل اتفاقية أضنة كسبيل ومخرج وحيد لحماية أمنها القومي.
وهذه التداعيات العسكرية والكباش السياسي غير المنتظم في الصراع على سورية، أسس لخروقات روسية مهمة في مجال صراعها مع الغرب عامة ومع «ناتو» خاصة عبر النقاط التالية:
1. أصبح الدور الروسي هو الأكبر وباعتراف دوائر القرار الدبلوماسية والبحثية الغربية بالقضاء على الإرهاب وتأمين ظروف الحل والتأثير على الفاعلين الإقليميين المتدخلين في الأزمة السورية بما في ذلك تركيا.
2. انضمام تركيا لمسار أستانا مع روسيا وإيران، وتوقيع اتفاقيتي سوتشي من قبل وزير دفاع موسكو وأنقرة وبحضور رئيسي الدولتين، شكلا نقطة تحول مفصلي لمصلحة موسكو يمكن البناء عليها مستقبلاً في صراعها مع «ناتو» عبر تفاهمات تحصل مابين روسيا، العدو التاريخي للناتو، مع أحد دوله وبمشاركة وتأثير إيراني ترفضه قطعاً واشنطن وتل أبيب.
3. شراء تركيا لأسلحة روسية وبخاصة منظومة «إس400» واحتمالية توصل لتفاهم حول شراء طائرات حربية «سوخوي 35» وهي تريد مساعدة من روسيا في نقل التكنولوجيا والمعرفة إلى برنامج صناعة المقاتلة التركية، الأمر الذي يتضمن تداعيات متعددة في مقدمتها التأثير الروسي في المقدرات الهجومية والردعية لدول «ناتو» دون صدام، وانخفاض مدخول الصناعات الغربية من بيع الأسلحة والأهم من ذلك الاعتراف بالتقدم التكنولوجي الذي حققته موسكو في صناعة الأسلحة.
– أما في الملف الليبي فنجد بأن روسيا الاتحادية استفادت من التدخل التركي في ليبيا وبخاصة بعد توقيع اتفاقيتي ترسيم الحدود البحرية والأمنية مع حكومة السراج، لتعيد دورها وتوسيع نفوذها هناك بعدما استطاعت أميركا بالشراكة مع الـ«ناتو» الالتفاف على موسكو إثر القرار 1973 وغزو ليبيا وتقليص نفوذها هناك، وبالتالي فإن هذا التدخل التركي منح موسكو:
1. عودة التأثير والوجود الروسي في ليبيا وبشراكة واصطفاف مع أعداء موسكو داخل الناتو، فرنسا وألمانيا وإيطاليا، لذلك فإن تداعيات أستانا من جلب تركيا إليه امتد وتكرر في ليبيا عبر التعاون الروسي الفرنسي الألماني الإيطالي للحد من النفوذ التركي، وهو يتضمن اعتراف أوروبي بدور روسي متنام ومتصاعد في حل الأزمات الإقليمية والدولية، ويجعل يدها هي الطولى في مسار الحل.
2. التوتر الحاصل مابين أنقرة مع الاتحاد الأوروبي وفي تحد مع ما يسمى دول منتدى الغاز بالمتوسط، يصب في مصلحة موسكو التي لا ترغب في نجاح أي مشاريع لتصدير الطاقة بعيداً عن مشاركتها والتنسيق معها وبما يضمن الحفاظ على تأثيرها على أوروبا.
أما النظام التركي الراغب في إدارة وتزعم النظام الإقليمي عبر تدخلاته الخارجية وتوظيف إيديولوجية الإخوان المسلمين وامتلاكه وسائل عسكرية، عبر المجموعات المسلحة، يجد في علاقاته مع موسكو أفضل وسيلة لذلك، فهو يدرك حجم القوة المتصاعدة الاقتصادية والعسكرية لروسيا ولهذا يسعى لبناء وتجذير وتوسيع حالة الشراكة القائمة مع الروس، وبخاصة بعد انغلاق بوابة الطريق للاتحاد الأوروبي، والخلافات المتنامية مع واشنطن.
هناك مسعى من كلا الجانبين للوصول لشراكة اقتصادية إستراتيجية ليس رغبة بالتعاون والنمو المتبادل فقط، بل لمواجهة العقوبات الأميركية ولمحاولة تأثير كل طرف على الآخر وعلى الفاعلين الآخرين في قضايا الصراع الجيوسياسي.
فعلى الرغم من التصعيد العسكري المتوقع في شمال سورية وليبيا، أكد تشغيل الرئيسين الروسي والتركي مشروع «السيل التركي»، على ربط الاقتصادين التركي والروسي لعقود من الزمن، و«السيل التركي» هو مشروع يمد أنبوبين باستطاعة 15,75 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً لكل منهما، من روسيا إلى تركيا ومنها إلى أوروبا عبر البحر الأسود، يغذي الأنبوب الأول تركيا، والثاني دول جنوب شرقي، وجنوبي أوروبا، ومع إتمام المشروع بالكامل، تتحول تركيا كما يتحدث الروس إلى عقدة لضخ الغاز الروسي إلى جنوبي أوروبا ووسطها، ما سيعطي النظام التركي موقعاً جيوسياسياً في المنطقة مؤثراً على أوروبا، وبدعم روسي مباشر تتخلص من خلاله موسكو نوعاً ما من الضغط الأميركي على أوكرانيا ويزيد من زيادة التحديات أمام واشنطن من تنفيذ مشروع خط غاز «تاناب» من دول البلقان باتجاه أوروبا عبر تركيا لإخراج دول البلقان من التأثير الروسي.
كما أن تركيا تطمح في علاقتها الإستراتيجية مع موسكو أن تفتح لها الأخيرة بوابة التعاون والشراكة مع الصين للعب دور بارز من خلال خريطتها وموقعها الجغرافي في مشروع «حزام واحد طريق واحد» والامتيازات الكبيرة التي ستحصل عليها أنقرة من ذلك الأمر الذي يخفف من تأثير الرأسمال الغربي الضاغط على اقتصادها.
من المؤكد أن طبيعة العلاقات الروسية التركية من مختلف جوانبها، تشكل نموذجاً حديثاً في تعلم وتعليم العلاقات الدولية والاستفادة منها، وهذا لا يعني أن تركيا ستصل في علاقاتها مع موسكو نحو تحقيق مبتغاها سياسياً وعسكرياً في سورية وليبيا على العكس، فالنموذج يكمن في قدرة موسكو على تطبيق سياسة الفصل بين الجوانب هذه العلاقة، فهي تحافظ على ارتقاء الحالة الاقتصادية وتطويرها في ظل التوتر العسكري والسياسي في الملفات الخارجية، فضلاً عن امتلاك موسكو لأوراق قوة وضاغطة للي ذراع تركيا في بعض المفاصل بما في ذلك الدور الروسي في تلطيف الأجواء بين سورية والسعودية وأثر هذا الدور بدفع السعودية نحو إعادة هيكلية العارضة وسحبها من الاحتكار التركي، والدعم العسكري في القضاء على إرهابيي إدلب والحد من النفوذ التركي في المنطقة وإحداث حالة توازن بين الفاعلين السياسيين على سبيل المثال لا الحصر.