ثقافة وفن

نموذج غسان مسعود لمسرح ما بعد الحرب … الهوى الغربي يتحول إلى وحش احتكارات وتقسيم

| نهلة كامل- تصوير: طارق السعدوني

يقول فناننا الكبير غسان مسعود: إن ما كان يصلح قبل الحرب، في الدراما، لا يصلح بعدها، ويقدم في مسرحية «هوى غربي»، من إخراجه وتأليف الشابة لوتس مسعود، نموذجاً ناضجاً وخلاقاً يقيم حالة شراكة مع الجمهور في مرحلة تداعيات الحرب على الحياة السورية.

مسرح التفاصيل الاجتماعية

أما لماذا يتجه غسان مسعود إلى المسرح، وهو الذي لا يجد وقتاً، فلعل الجواب هو الذي جاء على لسان الكاتب الفرنسي الطليعي يونسكو، حين قال: إن المسرح هو ببساطة ما لا يمكن التعبير عنه بأي وسيلة أخرى.
يعالج العرض، ولن أفصل بين التأليف والإخراج، قضية اجتماعية برزت في مرحلة الحرب وتداعياتها، هي معاناة الهجرة والعودة، ويقدمها متداخلة بالنسيج الاجتماعي والسياسي، فتصبح النتيجة والدلالة، والتفاصيل المتدفقة من العادي المعيش إلى الواقعية النقدية في فن المسرح الاجتماعي، ويقول مسعود في كلمة المؤلف: حياتنا هي تفاصيل حياتنا، يحدث في الفن أن مجهره يحول هذه التفاصيل إلى مادة بصرية وسمعية متنوعة، في شرط جمالي لاستدراج وعي المتفرج إلى فائدة مرجوة.
إن عرض «هوى غربي» يقدم تفاصيل حياتنا الآن ويترجمها مسرحياً من خلال أدواته التي تميزت بالحركة الحيوية النشيطة، والصوت الإيقاعي العالي الذي يرتفع إلى مستوى الغناء أو الصراخ ألماً، والذائقة التي لها نكهة الحياة المحلية الخاصة والمحببة.
وتوضح «هوى غربي» أنها اختارت، بتفاصيلها، مظهر المسرح الاجتماعي، الذي ازدهر بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث تكرست أسماء عبقرية مثل برناردشو، وستريندبرغ وتشيخوف، وكانت المسرحية الاجتماعية الأكثر حضوراً على مسارح البلدان الشيوعية.

شراكة المنصة والجمهور

تتداعى تفاصيل الحياة في عرض «هوى غربي» لتصبح قادرة على جعل حادثة مألوفة في مرحلة الحرب تمد جذورها إلى ما قبل الحرب وأفكارها إلى مستقبل البلد، إنها قصة بسيطة يعرفها الجمهور ويعايشها يومياً، وتدور بشكل مباشر حول هجرة ثلاث شابات من أسرة غنية إلى فرنسا، وعودتهن إلى مسقط رأسهن فلماذا كانت الهجرة ثم العودة الآن؟
وسنجد في «هوى غربي» أن تفاصيل حياة هذه الأسرة سوف تتصاعد بشكل طبيعي وعفوي إلى الحوار حول المصير العام، إن هالة ومريم وجوليا، أدين أدوارهن نازلي الرواس وروبين عيسى ومي مرهج، غادرن إلى باريس ربما في بداية الحرب بتأثير من هوى هالة للغرب وحياته، ويعدن أيضاً برغبة منها في بيع ممتلكات العائلة للعيش في باريس بشكل أفضل، لكن العم رستم بيك، يؤديه جمال قبش، الذي عاد حباً بنكهة حياته المحلية، والأخ الأكبر سيف الدين سبيعي الذي لا يطاوعه قلبه ولا قدماه على المغادرة قد بقيا في القرية ولا يريدان البيع، وهكذا تنسج «هوى غربي» فعلها، من التفاصيل، كما يفعل مسرح تشيخوف الذي ينسج الفعل بطريقة متداخلة ومتشابكة.
وتتطور أحداث «هوى غربي» في مخبر الحياة الفردية، ولكن كنموذج المسرحي العالمي آرثر ميللر في المسرح الاجتماعي الذي: يحول الحقائق الاجتماعية إلى حقائق شخصية والمواقف إلى علاقات عامة، حيث تجد عودة مريم وجوليا مناخاً من الحب القديم بين مريم وشكر الله، الشاب الفقير الذي حولته الظروف إلى شبّيح بالمعنى الدارج، وبين جوليا وشاب موسيقي انتظر عودتها دائماً في حالة رومانسية لا ندري هل تأثرت بظروف الحرب؟ وتجعل المسرحية حقائق الحب قادرة على فرض مصالحات على الماضي، حين نهشت كلاب البيك جسد شكر الله وهو يطلب يد مريم للزواج، حيث يقبل الأخ الأكبر، متجاوزاً الماضي، الشابين أزواجاً لأختيه الآن، لكن مصالحات الحب لا تكفي لمواجهة التحديات التي تعيشها العائلة والبلد بشكل عام، فما تزال الأهداف متجابهة ومتصارعة حول بيع ممتلكات العائلة لأصحاب المشاريع الاستثمارية الكبرى التي تريد تقسيم البلد بعد غزوه، والأسئلة تتعالى إذاً ماذا سنعمل الآن، هل نتمسك بالماضي أم نعمد إلى التغيير الشامل، وهل نفتح مضاءنا أمام رياح الاحتكارات، أم نغلق ستآئرنا على رائحة الماضي، حالة حوار مع الجمهور ينتهي عندها العرض من دون تقديم جوابه الخاص.
إن قدرة الحكاية العائلية الصغيرة في «هوى غربي» وارتفاع التفاصيل المتشابكة إلى مستوى خلق حوار ضمني دائم مع الجمهور، اعتمد على حالة الشراكة بين المنصة والصالة أي الجمهور الذي يعيش يومياً التفاصيل نفسها، لكن الأسلوب الفني كنموذج اعتمد الطرح دون فرض الأحكام، هو الذي كان خلاقاً في تجسيد الشراكة في المصير، والتي كانت تتظاهر بالتصفيق تأييداً للمواقف الاجتماعية والإنسانية التي يعيشها، وكأنه يعلن آراءه، ويدخل فعل صياغة الموقف والحوار والإجابة.
إن «هوى غربي» تقول: بعد حساب الحوار مع الجمهور ودون ديكتاتورية إن السوريين يحبون البقاء على أرضهم، وهم يدركون ظروف حياتهم القاسية: بوجود غلاء المعيشة وفقدان الكهرباء والماوزت والغاز، وهجوم الأطماع الاحتكارية الكبرى المتصارعة على أملاكهم، وبشكل مشاريع استثمارية لا تترك في خريطة الوطن التي ينشرها العرض في نهاية المسرحية أمام الصالة مكاناً لأي ملكية وطنية أو فردية صغيرة أم كبيرة.
لقد استطاع العرض الوصول من تفاصيل الحياة الاجتماعية في مرحلة تداعيات الحرب، إلى طرح هذه القضايا الكبرى المصيرية السابقة، ونسج من العلاقات الإنسانية الفردية حالة المواجهة العامة التي يعيشها السوريون، وقد أعطى للمصالحات مكانها، وللحب دوراً رئيسياً في جعل الحياة ممكنة وممتعة، لكن ما يبقى كمعضلة ونشاز فهو ذلك الهوى الغربي الذي ينظر إلى الوطن كمكان للاستثمار وملكية للبيع، والذي يتحول إلى ماكينة متوحشة من الحروب والاحتكارات والاستثمارات التي تغزو البلد لتقسيمه فيما بينها.

طاقم فني خلّاق

لقد ساهم كل المشاركين في «هوى غربي» بتقديم جماليات فنية متعددة، جعلته نموذجاً لافتاً فالموسيقا لنزيه أسعد واعتماد صوت المطربة الفرنسية الشهيرة أديث بياف أعطى العرض مؤثراته الغربية المطلوبة، وقامت إضاءات جلال شموط بدورها الكبير في تطوير الأحداث وتقطيع المشاهد، وكانت البطلة التي أعلنت حضورها على شكل عاصفة انتهت عليها المسرحية.
لقد كان فناننا الكبير غسان مسعود خلاقاً في استغلال أدواته، حيث تقاطع نموذجه مع فهم المسرح الملحمي البريختي لعلاقة العرض مع الجمهور، وكان في أفضل حالاته الحركية الإيقاعية، وتقطيع المشاهد بالغناء والموسيقا والضوء، وتحريك قطع الديكور البسيط – صممه هالي جبور- بوساطة شخص محايد على المنصة تأكيداً على أننا نستطيع التحكم بها، وليست هي من يتحكم بنا.
وقد كان عرض «هوى غربي» متألقاً كنموذج لمسرح ما بعد الحرب، قادراً على خلق حالة الشراكة مع الجمهور، بفعل طاقم الممثلين الذين قدموا قمة طاقاتهم، وكانوا في لياقة جسدية مبهرة، لقد كان لجين إسماعيل في ذروة حيويته وأدائه المدهش، وجمال قبش في براعة التمثيل والغناء والحركة المدروسة، وعرضت نازلي الرواس كل ما تختزنه من موهبة وقوة شخصية لتجسد الهوى الغربي المتوحش، وأعطت روبين عيسى ومي مرهج بعداً نفسياً وظهوراً عاطفياً شفافاً، وكذلك كان ظهور مصطفى المصطفى، وعبد الرحمن قويدر وغسان عزب.
أما سيف الدين سبيعي فقد استطاع تجسيد بؤرة التأمل، والانغماس في الحدث من زاوية التعلق بالوطن، وهو الذي ينهي العرض من وجهة نظر الصالة والجمهور، إنه يضع الكرسي باتجاه المنصة، ويصغي للأسئلة وكأنه يشارك المتفرج حالة المراقبة الجديدة التي تفرض نفسها بعد الحرب.
إن طاقم عمل «هوى غربي» من ممثلين بارعين يتركون أعمالهم الدرامية الغالية الثمن، ليتفرغوا على منصة مسرح الحمراء ويقدموا لجمهورهم طاقاتهم هدية مشاركة في ظروف وطنية لا تزال قاسية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن