هي ثلاث سنوات و107 أيام تلك التي فصلت بين تحرير معسكر «أوشيفتز» النازي في بولندا على يد الجيش الأحمر السوفيتي في 27 كانون الثاني 1945، وبين الإعلان عن قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين في 14 أيار من العام 1948.
الحدثان ليسا منفصلين، حيث سيشكل الأول «مبررا» لقيام الثاني، أقله أنه اعتمد وازعا «أخلاقيا» ارتكز عليه «العالم المتحضر» للاعتراف بقيام كيان قومي لليهود في فلسطين وليس في قبرص ولا أوغندا أو الأرجنتين التي كانت كلها أسماء مطروحة لقيام ذلك الكيان قبيل أن يحسم الأمر عبر قرار التقسيم الصادر عن مجلس الأمن العام 1947.
كان الفكر الصهيوني العالمي الحارس لقيام الكيان مدركا جيدا لضرورة تجذير الأسطورة والعمل على إجراء تحديثات عليها تتناسب مع التحولات الجارية في فكر، ومزاج، ذلك «العالم المتحضر» الذي ارتضى في غفلة المصالح أن يصبح اليهودي المولود في كييف أو وارسو صاحب حق في أرض القدس أو حيفا بديلاً عن الفلسطيني المتجذر فيهما منذ آلاف السنين.
تداعى أربعون من قادة وممثلي دول على امتداد هذا العالم لإحياء الذكرى الـ75 لـ«الشوعاه» التي ترمز للمحرقة اليهودية المعروفة بـ«الهولوكست» في أدبيات العالم الغربي يوم الخميس الماضي في القدس المحتلة، بينما النفخ الجديد في جسد الأسطورة كان منصباً هذه المرة على وجوب عدم تكرارها، حيث سيذهب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطابه أمام ذلك الحشد إلى اعتبار إيران «أكثر دولة معادية للسامية في العالم»، وأن مواجهتها عالمياً هو الفعل الوحيد الكفيل بمنع حصول ذلك الفعل مرة أخرى.
لاشك أن الحدث السابق الذي شهدته مدينة القدس يمثل في أحد أوجهه المهمة تعبيراً عن حال أقصى من الوهن العربي، يقابلها على الضفة الإسرائيلية حال هو على النقيض منها، فسياسات الدول العميقة تبنى أساساً على حقائق القوة والمصلحة، وكلا الاثنين اليوم ليس في صف واقع عربي متداع ومتشرذم كما لم يكن في يوم من الأيام منذ صيف العام 1948.
نجح بناء الأسطورة، وكذا العمل على تفعيلها باستمرار، في التعمية على كثير من الوقائع، والفعل السابق وقع عملياً حتى بالنسبة لنخب أو حتى قادة كانوا في موقع القرار، والكثير من هؤلاء انساقوا وراء سياقات صنعتها ماكينات إعلامية عملاقة مع تسجيل حالة من تفضيل البعض لممارسة فعل القبول بما تنتجه هذي الأخيرة، إما لعدم القدرة على مواجهتها وإما لحساب الخسائر المترتبة عن القيام بفعل من هذا النوع.
في محاكمات نورينبرغ التي انعقدت لمحاكمة قادة نازيين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تم توجيه تهمة إعدام 3 ملايين من معتقلي معسكر أوشيفتز للقائد الأعلى للمعسكر رودلف هوس، إلا أن الرقم تم تعديله ليعتمد رقم 1.1 مليون في النهاية، كان منهم 150 ألفاً من البولنديين و15 ألف معتقل كانوا من الجنود السوفييت، وعشرات الآلاف من جنسيات أخرى مختلفة، وعلى الرغم من أن الرقم، أياً يكن حجمه، فإنه يشكل مدعاة وسببا كافيين للإدانة، بل إن فعل الإدانة يعتبر واجبا أخلاقيا من الناحية الإنسانية، لكن بعد الإضاءة على بقع معتمة اقتضت عملية الأسطورة إبقاءها في تلك الحالة، فعلى الرغم من أن قرار المحكمة سابقة الذكر كان قد أقر أن 90 بالمئة ممن أعدموا كانوا من اليهود، إلا أن الجنود السوفييت الذين أعدموا كانوا قد لقوا ذلك المصير بوصفهم «شيوعيين» وليس باعتبارهم «يهوداً»، حتى وإن كان العديد منهم حاملاً لهذه الصفة الأخيرة، ولربما يمكن لنا إنسانياً أن نبرر لهذا العالم المتحضر سعيه نحو إحياء تلك الذكرى التي لا أحد يريد تكرارها على أي نحو من الصور، لكن على أن يكون ذلك الإحياء في بلد الحدث أي في بولندا لا في فلسطين، وإذا كان لا بد من حدوث الفعل في هذي الأخيرة فإنه يجب أن يكون لإحياء ذكرى مجازر«دير ياسين» و«اللد» و«خان يونس» و«القدس»، لكن طلباً كهذا يبدو وكأنه أشبه بمن يطلب من هذا العالم أن يكون «ملكياً أكثر من الملك»، فعندما يكون الفعل، أي إحياء ذكرى هذه المجازر الأخيرة، غائباً عن أهل القضية أنفسهم، الفلسطينيين والعرب على حد سواء، يصبح الطلب من الآخرين القيام بما لم يقوموا هم به أمراً غير واقعي.
كان مفهومنا للصراع مع إسرائيل ينحصر في الحرب، والمؤكد أن ذلك المفهوم لإدارة ذلك الصراع كان خاطئا، أو هو ناقصا بمعنى أدق، فالحرب هي إحدى محطات الصراع التي يتم فيها اقتناص لحظة سياسية مناسبة بعد أن تكون بقية الاستعدادات قد تكاملت، ومن الجائز لها، أي لمحطة الحرب، أن تتكرر في العديد من الجولات، لكن هناك ما بين هذي الأخيرة الكثير مما يجب فعله وهو لا يقل أهمية، بأي حال من الأحوال، عن فعل الحرب التي تتحدد نتائجها عبر موازين إقليمية ودولية ذات تأثير حاسم في الأغلب، بل إن نتائجها يمكن، عبر تلك الموازين، أن تحسم حتى قبل أن تبدأ فوهات المدافع بإخراج مخزوناتها.