في مجلسه كان يضم الأمراء وأكابر الأطباء … ابن النفيس: صاحب أكبر موسوعةٍ طبية كتبها شخصٌ واحد ومكتشف الدورة الدموية الصغرى
| نبيل تللو
يُعَدُّ العالم والطبيب العربي «علاء الدين بن أبي الحزم القرشي الدمشقي المعروف بـ«ابن النفيس» المولود في دمشق والمتوفى في القاهرة (607- 687 هـ، 1210- 1288 م) بحق صفحةً مشرقة في تاريخ التراث العلمي العربي، فقد خلَّف تراثاً علمياً ضخماً ومنوعاً في اللغة والفلسفة والفقه والحديث والطب. في هذه المقالة سوف نتعرف سريعاً على هذا العالم العربي ومؤلفاته، ولا سيما كتابه الأشهر: «الشامل في الصناعة الطبية» الذي يُعَدُّ أكبر موسوعة طبية في التاريخ كتبها شخصٌ واحد فقط، راجياً أن يتذكر كرام القارئات والقراء ما نسوه، وأن يتعرفوا على ما لا يعرفونه.
ابن النفيس، دون أن نعرف ـ يقيناً ـ سبب هذا اللقب، ربما أطلقه بعضهم عليه لنفيس علمه وبراعته في الطب، كما يُعرف بـ«القَرْشي» نسبة إلى «قَرْش» في ما وراء النهر، ومنها أصله، وليس أصله من قريش في الجزيرة العربية، ويُقال أيضاً إنَّ أصله من قريةٍ صغيرة قرب دمشق تدعى: «قَرْش»، وكانت خارج أسوار المدينة، وهي اليوم حيٌّ من أحياء الميدان الوسطاني الدمشقي. كما كان يُعرف أيضاً بـ«المصري» لأنه عاش شطراً واسعاً من حياته في مصر، ولُقِّبَ بـ«ابن سينا الثاني» لعظيم مكانته في الطب بعد الشيخ الرئيس ابن سينا، وبـ«عبقري الطب العربي»، فقد كان طبيباً عظيماً وأعظم أهل عصره بالطب، وفقيهاً مشهوراً، وفلسفياً ولغوياً، تعلَّم الطب في دمشق، في البيمارستان (أي المشفى) النوري الكبير الذي أنشأه السلطان نور الدين محمود بن زنكي في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وكان «مهذب الدين عبد الرحيم بن علي الدخوار» أحد معلميه، نزل مصر ومارس الطب في المستشفى الناصري، ثم في المستشفى المنصوري الذي أنشأه السلطان قلاوون، وأصبح عميد أطباء هذا المستشفى، وكان طبيباً خاصاً لحاكم مصر الظاهر بيبرس الذي عيَّنه رئيساً للأطباء، فأصبح شيخ الطب في الديار المصرية، ولم يكن هذا المنصب فخرياً، بل كانت له السلطة لمحاسبة الأطباء ومراجعتهم في هفواتهم، وكان يحضر مجلسه في داره جماعةٌ من الأمراء وأكابر الأطباء.
كتب ابن النفيس في علومٍ شتى، ومن كتبه «الموجز في الطب» و«شرح فصول أبقراط» و«المهذب في الكحل المجرَّب» و«المختصر في أصول علم الحديث»، و«الرسالة الكاملية» التي عارض فيها ابن سينا وابن طفيل في كتابيهما العظيمين «حي بن يقظان»، و«شرح تشريح القانون» وفيه وصف اكتشافه للدورة الدموية الصغرى، معلناً أنَّ عضلة القلب تتغذَّى من الأوعية الموجودة في جوفه، وهو في ذلك يناقض جالينوس وابن سينا.
غير أنَّ أهم كتبه على الإطلاق هو:
– الشامل في الصناعة الطبية: وهو أضخم موسوعة طبية يكتبها شخصُ واحدٌ في التاريخ الإنساني، وضعها ابن النفيس لتكون مرجعاً طبياً شاملاً، أعدَّ منه ثمانين جزءاً قبل أن توافيه منيته، وكان في تقديره سيكون ثلاثمئة جزء، وما كان له المقدرة على كتابته لولا أنَّه قد درس مؤلفات من سبقه من علماء الطب بدءاً بجالينوس، مروراً بحنين بن اسحق والرازي والمجوسي وابن سينا، وكتب تعليقات جوهرية على كتاب: «القانون في الطب» لابن سينا؛ راجع فيه مفاهيم كانت قد وضعت في وظائف أعضاء الإنسان وتشريحه، فقام بإصلاحاتٍ فيها معتمداً على دراسة الطب والفيزياء وعلوم الدين، لتكوين فهمٍ كامل لطبيعة الجسم الحي، ومعتمداً أيضاً على علم التشريح من خلال معاينة تشريح الحيوان.
كما يُذكر عن طريقته في التأليف أنَّه كان ما أن تأتيه فكرة حتى يسارع إلى تدوينها، فتتداعى أفكاره كالسيل، وكان لا يرجع إلى مرجع، وإنما إلى ما يحفظ في ذاكرته ومشاهداته واستنتاجاته.
قسَّم ابن النفيس كتابه: «الشامل في الصناعة الطبية» إلى فنون، والفن إلى أجزاء، والجزء إلى أنماط، والنمط إلى كتب، وكل كتاب يشتمل على تعاليم وفصول تشرح أسرار الصناعة الطبية التي كانت معروفة في ذاك الوقت، منها وظيفتا الطبيب والمريض وواجبات كلٍّ منهما، والعقاقير والأغذية، مرتبة على حروف المعجم، شارحاً ماهيتها وأماكن وجودها والجزء المستعمل منها دواءً، والأدوية المفردة واستعمالاتها.
وهكذا نرى من خلال الأجزاء المتوافرة من كتاب «الشامل في الطب» أنَّ ابن النفيس كان طبيباً عالماً متمكِّناً من مختلف العلوم، ولربما كان آخر العلماء العرب المسلمين العظماء، وكانت مؤلفاته واكتشافاته للدورة الدموية الصغرى تتويجاً لمرحلة من أزهى مراحل الطب العربي.
غير أنَّ ما هو معروف من مخطوطات كتاب الشامل في الطب ضئيل، وهي مبعثرة في العديد من المكتبات خارج المنطقة العربية، وقد قام الباحث الدكتور يوسف زيدان بجمع ما هو موجود وتحقيقها، ونشرها المجمع الثقافي في العاصمة الإماراتية أبو ظبي بين عامي 2000 – 2010 في ثلاثين جزءاً، وبلغ عدد صفحاتها نحو 15 ألفاً، وما يزال العمل مستمراً.
أخيراً أقول: حسناً ما قامت به الحكومة السورية من إطلاق اسم «ابن النفيس» على أحد أكبر مشافيها في دمشق، تقديراً لمكانته العلمية التي لا نظير لها حتى أيامه، ولتبقى ذكراه حيَّةً في نفوس الأجيال المتعاقبة.
صفحة من كتاب الشامل في الصناعة الطبية كتبها ابن النفيس بخط يده، وصفحة الغلاف لأحد الأجزاء المحققة.