تبقى تفاصيل «صفقة القرن» هوامش يمكن تعديلها أو التفاوض عليها أو حتى إسقاطها، فما قدمه الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس وزراء العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مهرجان فقط، دشنا فيه منهجية للسياسة الدولية قائم على منطق «غياب الآخر»، فالطرف الفلسطيني «مجهول» وفق الصفقة، ويتم تعريفه وفق آليات تطبيقها وبنودها السياسية والاقتصادية، وهذا الأمر يفسر خروج هذا الاتفاق بعيداً عن الأمم المتحدة التي تضمن وجود جميع الأطراف، وربما علينا الانتباه إلى أن هذا الشكل السياسي ليس سابقة لأنه بدأ في معالجة الأزمة السورية منذ مؤتمر جنيف الأول.
في أزمات الشرق الأوسط عموماً ظهر تغييب أحد الأطراف مع بداية الألفية الثانية، والمحاولة الأولى كانت قبل الاحتلال الأميركي للعراق، فاجتماعات مجلس الأمن بحضور المندوب العراقي كانت مقدمة لكسر العرف الدولي، وانفراد الولايات المتحدة بقرار الاحتلال كسر الوجه السياسي القديم، ولكن الصورة الأكثر وضوحاً ظهرت في الأزمة السورية في مؤتمر جنيف الأول عندما وضعت خريطة طريق وبافتراضات لتوصيف الطرف السوري الغائب، ويظهر الأمر اليوم في «صفقة القرن» ليشكل سياسة كانت سائدة قبل ظهور دول المنطقة، ولكن مع تعديل في العمق يظهر في رسم صورة الفلسطيني أو السوري من خلال الاتفاقات بين طرفين أو مجموعة أطراف.
يمكن قراءة هذا الوجه السياسي الجديد وفق عوامل تم وضعها خلال العقدين الماضيين، فعدم القدرة على تحديد «هوية الفلسطيني» وفق المنطق الدولي لم يظهر من فراغ، إنما بعد سلسلة من التعقيدات التي بدأت باتفاقية أوسلو وأفضت لصراعات داخل الفلسطينيين، وأوجدت تصوراً سياسياً يتم إسقاطه اليوم على سلسلة أزمات في شرقي المتوسط بما فيها الأزمة السورية، ويقوم هذا التصور على عاملين:
– لا يمكن ترك الأزمة كي تفرز هوية أحد الأطراف فهذا الأمر قاد لظهور حماس على سبيل المثال كشرعية موازية لشرعية السلطة الفلسطينية وأدى لولادة دورة «عنف جديدة» وفق المنطق الأميركي بدأت مع الانتفاضة الثانية.
ينطبق الأمر نفسه على الأزمة السورية فالمعارضة التي أكسبها المجتمع الدولي شرعية؛ ولدت دورات عنف ظهرت عبر تشكيلات أضعفت الشرعية المكتسبة من الغطاء الدولي، وأصبحت القوة الحقيقية متجسدة في التشكيلات المصنفة وفق القاموس الدولي بالإرهابية مثل جبهة النصرة.
– يمكن خلق مصالح لأحد الأطراف الموجودة في الأزمة خارج سياق الصراع القائم، ففي الموضوع الفلسطيني ظهر نسق من المصالح لا علاقة له بكل العوامل القديمة مثل حق العودة وتقرير المصير، وتحول الأمر إلى خلق استثمارات تعيد تنظيم الفلسطينيين، وينطبق هذا الأمر على الأزمة السورية التي أصبحت قضية «لاجئين» واستثمار لإعمار ما دمرته الحرب، وبناء موقع دولي مختلف لسورية.
ضمن صفقة القرن يمكن رؤية الكثير من التعقيدات الداخلية للشرق الأوسط، فهي ليست حلاً بالنسبة لمن وضعها بقدر كونها منهجية لرؤية الآخر الغائب أو العاجز عن فرض حضوره، فالشرعية الفلسطينية التي أسقطت حق المقاومة عبر تعديل الميثاق الفلسطيني هي المسؤولة عن مسار جديد ظهر عبر حماس والجهاد الإسلامي، وهذا الأمر لا ينطبق فقط على الفلسطيني الذي جاهد لتثبيت حقه عبر منظمة التحرير ثم وجد نفسه في دوامة صراع ما بين غزة والقطاع، بل أيضاً على الأزمات المختلفة في سورية والعراق ولبنان وليبيا، فدون القدرة لأي طرف على تمييز نفسه وسط السياسة الدولية فإنه سيترك للسياسة الدولية كي تشكله وفق تصوراتها، والدرس الفلسطيني الحالي هو أحد تجليات إسقاط الشرعية عموماً للمؤسسات الإقليمية مثل الجامعة العربية أو المحلية مثل منظمة التحرير، فهذه الشرعيات على علّاتها كانت تضبط على الأقل الإيقاع، واليوم هناك مساحة فارغة علينا بناؤها قبل أن تجتاحها السياسة الدولية بوجهها الجديد.