قضايا وآراء

متى سيعصب أردوغان رأسه بـ«عصابة حمراء»؟!

| عبد المنعم علي عيسى

على وقع توتر روسي تركي هو الأبرز منذ وصول البلدين إلى توافقات أولية بشأن الأزمة السورية عقب لقاء المصالحة الشهير بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان في 9 آب 2016، برز مؤخراً مساران متوازيان، وإن كانا موضوعياً هما أقرب إلى التنافر، الأول هو تمدد العملية العسكرية باتجاه بسط الجيش السوري سيطرته على إدلب الخارجة عنها منذ آذار 2015، إلا أن هذا المسار الأول لا يمثل، كما يبدو، عاملاً ملغياً للثاني الذي مثله الحراك السياسي الحاصل مؤخراً ويهدف إلى تحريك العملية السياسية من جديد بعد أن شهدت فتورا تمثل في إخفاق «اللجنة المصغرة» عقد أي من اجتماعاتها التي كانت مقررة أواخر شهر تشرين الثاني الماضي، لكن الراجح في هذا السياق أن المبعوث الأممي غير بيدرسون الذي زار دمشق الأربعاء الماضي لم يستطع، كما كان يأمل، تحقيق اختراق يفضي إلى انطلاق محادثات جنيف المقررة في منتصف شهر شباط الجاري، في مؤشر يعني تغليباً لمسار إدلب على أي مسار آخر.
يشي المسار العسكري الذي حقق تحولاً مهماً يوم الأربعاء الماضي بإعلان الجيش السوري بسط سيطرته على معرة النعمان مع تحفز لفعل شبيه في سراقب التي تشير تقارير إلى أنه أصبح على بعد كيلومترات قليلة جداً منها، يشي ذلك المسار بتكرار مثيل له حصل في أواخر العام 2016 وشهد عودة حلب إلى السيادة السورية، لكن مع وجود بعض الاختلافات تتمثل في افتراق تركي روسي هذه المرة من شأنه أن يفتح الأبواب على العديد من السيناريوهات بعد أن أصبح الجيش السوري على مشارف إدلب المدينة.
يتشابه سيناريو إدلب الحالي مع سيناريو تحرير حلب في طبيعة التوازنات القائمة بين الاثنين، وكذلك في تلاقي المصالح لأغلبية تلك القوى مع تسجيل نقطة اعتراض تركية، فأنقرة التي باتت مستكينة لعملية إتمام فتح الطريقين الدوليين «إم4» و«إم5» باتت تتحسب للمخاطر التي يمكن أن تترتب على عمل عسكري يهدف إلى عودة إدلب إلى حضن السيادة السورية، وهو فعل تبدو السياقات الراهنة سائرة باتجاهه ما لم تحدث تفاهمات في الوقت الضائع تجهد أنقرة نحو إنضاجها الآن، والخشية التركية تتمحور اليوم في أن يؤدي اقتحام الجيش لإدلب الذي سيكون بالتأكيد بطريقة «الصندوق المفتوح» الذي تغلق أضلاعه الجنوبية والغربية والشرقية ليترك ضلعه الشمالي الممتد نحو الحدود التركية مفتوحاً، إلى فرار مقاتلي «جبهة النصرة» باتجاه الداخل التركي، وهو الأمر الذي ستترتب عليه مخاطر أمنية تخشى أنقرة أنها لن تستطيع إبقاءها تحت السيطرة.
حالة التصعيد التركي كانت قد بلغت ذروتها في خطاب أردوغان الذي ألقاه في أنقرة أمام اجتماع لحزب العدالة والتنمية يوم الجمعة الماضي، والذي قال فيه إن بلاده «لن تتردد في القيام بما يلزم إزاء الاستقرار في سورية بما يشمل استخدام القوة العسكرية»، واللافت هو أن ما جرى بعد ساعات قليلة من هذا «التهديد» جاء كاشفاً، أو هو يعطي العديد من المؤشرات، للكثير من النيات الراسمة للخطوات التركية المقبلة، ففي اليوم التالي لخطاب أردوغان بثت وكالة «إباء» التابعة لـ«جبهة النصرة» شريطا ظهر فيه أبو محمد الجولاني عاصبا رأسه بشريطة حمراء وسط مجموعة من المقاتلين في أثناء اجتماع أطلقت عليه الوكالة اسم «بيعة الموت» بعد أن قالت إن الحضور كان لمقاتلين انغماسيين ينتمون لمجموعة «العصائب الحمراء»، والراجح هو أن ذلك التسجيل كان قد تزامن مع بدء إعلان الفصائل المسلحة الموالية لأنقرة شن عمليات انتحارية ضد مواقع للجيش السوري في جبهة جمعية الزهراء غربي حلب، بالتزامن أيضاً مع إعلان فصائل أخرى عن بدء معركة عسكرية في ريف حلب الشرقي.
هذا التصعيد الذي تغوص فيه وسائل إعلامية تركية قريبة من مواقع السلطة بشكل محموم وغير مسبوق، يشير إلى حرج تجد أنقرة نفسها فيه تجاه اندفاعة الجيش الراهنة في إدلب، ولأن اليد التركية الآن تبدو في حالة هي أقرب إلى العجز إزاء التدخل لتغيير مسار الأحداث في هذه الأخيرة بفعل تصلب روسي بدا واضحاً عندما سارعت موسكو بعد ساعات على إطلاق أردوغان تهديداته السابقة الذكر إلى القول: إن ما يجري هو تطبيق لاتفاق سوتشي التركي الروسي الذي يقضي بـ«إقناع» جبهة النصرة بتسليم أسلحتها الثقيلة قبيل انقضاء العام 2018 والعمل على فتح الطريقين الدوليين إم4 وإم5، وتجد نفسها فيه أيضاً بفعل توترات عدة تعيشها في العديد من الاتجاهات، فالعلاقة مع الأميركيين هي في درك منخفض، وهي لا تتيح هوامش واسعة للمناورة، وإن كان من المؤكد أن هؤلاء الأخيرين لن يوفروا الصيد في ماء عكر يتيحه اليوم التوتر الروسي التركي في ملفي إدلب وليبيا في آن، ثم إن العلاقة مع فرنسا هي في أسوء حالاتها ولم تكن بحاجة إلى ذلك الزيت الذي صبه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في 29 من الشهر الماضي بحضوره حفل عشاء أقامه المجلس التنسيقي للمنظمات الأرمنية في باريس، وفيه قام هذا الأخير بتسليم المؤرخ التركي تانير أكشام ميدالية الشجاعة عن كتابه «أوامر بالقتل» الذي ضمنه توثيقا لصحة البرقيات العثمانية الصادرة عن السلطات بتنفيذ المجازر ضد الأرمن، ما يعني أن تلك المجازر كانت قد صدرت بقرار سياسي وبتدبير ممنهج، ثم إن العلاقة التركية مع طهران هي اليوم في أوهن حالاتها منذ إطلاق مسار أستانا، والوهن جاء على خلفية التطورات الحاصلة في كل من سورية والعراق خصوصاً منذ تشرين الأول الماضي لكنها تعمقت بدءاً من أواخر العام المنصرم.
الجيش بات في وادي الضيف، لكن ليس ضيفاً، وهو بات على مشارف مدينة سراقب، ولذا فإن أنقرة تعمل على كبح جماحه نحو إدلب عبر الضغط على خواصر تراها رخوة في كل من ريفي حلب الغربي والشرقي، إلا أن ذلك لن يؤتي أكله على الأرجح، صحيح أن ذلك سيؤدي إلى أوجاع، لكن لا جراحة من دون آلام، والألم الناجم عن فعل الجراحة يصبح مبرراً طبياً قياساً إلى النتائج التي سيفضي إليها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن