ثقافة وفن

تل عجاجة أو شاديكاني آثار باقية لمملكة خالدة ترفض الاندثار … الفخيرية تاريخ يمتد لتسعة آلاف عام قبل الميلاد

| المهندس علي المبيض

سورية بلد التنوّع الطبيعي والاستمرار الحضاري، في أرضها يستعرض المرء عراقة التاريخ وقدمه واستمراره وهي بلد الوسطية والاعتدال، تقع وسط القارات الثلاث ومناخها متوسطي وجوها معتدل، وعلى الرغم من تباين تضاريسها إلا أنها ليست شاهقة الارتفاع ولا عميقة الانخفاض حيث لا تعيق حياة الإنسان ولا تشكّل عقبة أمام نشاطه، وسورية اليوم هي سورية الأمس سورية التاريخ والحضارة فمنها خرجت أول أبجدية في العالم وفيها كانت بداية الاستيطان البشري وتدجين الحيوانات واختراع المحراث الأول وفيها تشكّلت المدن الأولى في التاريخ، وأرضها متحف طبيعي لحضارات عديدة تعاقبت عليها منذ أكثر من عشرة آلاف عام فهي الأغنى حضارياً والأكثر تنوعاً.

تعد الجزيرة السورية الواقعة بين نهري الفرات ودجلة وخاصةً الجزء الأعلى منها والكائن شمال شرق سورية والمعروف بالجزيرة العليا الأغنى بتلالها الأثرية، حيث يقدر عدد التلال الأثرية فيها بأكثر من 2000 تل، وكثافة التلال الأثرية في الجزيرة العليا تعكس الأهمية التاريخية لتلك المنطقة وملاءمتها للسكن من حيث وفرة المياه وإمكانية الزراعة والرعي وتوافر هطلات مطرية كافية وقربها من شبكة طرق التجارة القديمة، ومن أشهر وأهم التلال الأثرية في تلك المنطقة: تل الضمان تل الحصين تل مرقدة تل الشيخ حمد تل الشدادي تل أحمر تل عتيج تل معروف تل مجدل تل باز تل بالوعة تل جزيرة تل نجم تل كوران تل مساس تل نصري تل العصافير تل العريشة تل دياب تل برقة تل حلف تل براك تل ليلان تل بري تل موزان تل بيدر تل خويرة تل عجاجة.. وغيرها.
تل عجاجة أو شاديكاني والمعروف بتل عربان يقع على الضفة اليمنى لنهر الخابور وعلى بعد 30 كم جنوب مدينة الحسكة وعلى الطريق القديم الذي يربطها بمحافظة دير الزور، ويعتبر تل عجاجة نموذجاً مهماً للتلال الأثرية في الجزيرة السورية بل يعد من أهم المواقع الأثرية من حيث القيمة الأثرية والمساحة، إذ يبلغ طوله نحو 500 م ويبلغ عرضه 140 م ويرتفع عن السهول المحيطة به نحو 15 م وهو أحد التلال الخمسة التي تضم بقايا مدينة عربان التي كانت تعتبر إحدى أعظم مدن الخابور خلال فترة الحضارة العربية الإسلامية وقد تردد اسمها عند الرحالة العرب والأجانب في تلك الفترة أمثال المقدسي وأوبنهايم، ويُروى أن نور الدين الزنكي بنى عند هذا التل جسراً لعبور نهر الخابور وقد هدم الجسر في فترات زمنية لاحقة ومازالت آثاره باقية، ويعتقد عدد من الباحثين أن تل عجاجة هو عاصمة الدولة الآشورية ويذكر أنه خلال التنقيبات الأثرية تم العثور على بقايا قصر آشوري وعدد من التماثيل وكؤوس عليها نقوش، كما عثر على منحوتةٍ ضخمة لثورٍ مجنَّح صنع من الحجر الكلسي ومثل هذه المنحوتات جرت العادة أن توضع أمام أبواب القصور.
قادت تلك الاكتشافات إلى اعتقاد العلماء بأن هذا التل هو نفسه مدينة شاديكاني الآشورية التي استمرت في العهدين الروماني والعربي ووردت في رسائل ملوك الآشوريين الذين مرّوا في هذه المنطقة في القرن التاسع قبل الميلاد، واستطاع علماء الآثار اعتماداً على النصوص المسمارية التي تضمنتها إحدى اللوحات النافرة الموجودة في مدخل القصر من التعرّف إلى اسم الحاكم والعلاقة التي كانت تربطه مع ملك آشور، كما أكدت تلك المكتشفات الأثرية أن الاستقرار في الموقع مر بثلاث سويات ساعدت في تحديدها اللقى الأثرية والكسر الفخارية المكتشفة في كل طبقة: السوية الأولى وتعود إلى فترة الحضارة العربية الإسلامية، والسوية الثانية تعود إلى العصور البيزنطية، والسوية الثالثة تعود إلى العصر الآشوري الحديث في القرن التاسع قبل الميلاد، حيث تم العثور في هذه السوية على القصر الذي شيد فوق مصطبة وهو مكوّن من عدة غرف مبنية من اللبن ومزوّد بأقنية لتصريف المياه وأرضيته مبلّطة بالآجر المشوي، وعثر بداخله على منحوتات كبيرة توضّعت على جانبي المدخل وهي على شكل ثور مجنّح له رأس إنسان ويرمز للقوة والحكمة، إضافة إلى منحوتات أخرى تزين مداخل غرف القصر كما زيّنت جدران القصر لوحات نافرة تضمنت رموزاً معينة تعكس الجانب الثقافي والديني الذي كان سائداً في تلك الفترة مثل طير العقاب الأسطوري وله جسم إنسان ويحمل ثمرة صنوبر ولوحة نافرة أخرى لأسد فاغر الفم وهي تعطي إحساساً بالرهبة والعظمة لكل من يدخل للقصر، ومن اللقى الأثرية المهمة التي عثر عليها في الموقع قطعة نادرة وهي عبارة عن دبوس من حجر المرمر عليه كتابة مسمارية، كذلك دلّت المكتشفات على أن السكن في المدينة مستمر في العصور الرومانية، اشتهرت المدينة خلال العصر العباسي بزراعة القطن وازدهرت فيها صناعة الملابس القطنية.
موقع تل شعير يقع شمال شرق سورية على بُعد /22/ كم شرق مدينة القامشلي كما يبعد عن الحدود التركية نحو /3/ كم، والتل مكّون من مجموعة تلال كانت مأهولة خلال فتراتٍ سابقة، وهناك مواقع أثرية مهمة قريبة من التل تقع على المجرى النهري نفسه الموجود في المنطقة مثل تل ليلان، وتعتبر هذه المنطقة مستقرةً من ناحية الزراعة نتيجة غزارة الهطلات المطرية وتوافر الرطوبة وهي غنية بالمياه الجوفية السطحية والتي يمكن الوصول إليها على عمق /8/ م فقط وتربتها خصبة، وهذه الأسباب كافية لازدهار الزراعة البعلية ما جعل هذا الموقع جاذباً للاستيطان منذ أقدم العصور ونستدل على طول فترة الاستيطان من عدد السويات التاريخية التي احتواها التل، ويعدّ تل شعير من المواقع الأثرية الضخمة من حيث سماكة السويات التي تصل إلى نحو 30 م والتي يعود تاريخها لفترات زمنية متلاحقة تبدأ من الألف السادس قبل الميلاد وحتى الفترة الإسلامية.
وخلال التنقيبات الأثرية التي تمت في تل شعير فقد تم العثور على عدد كبير من اللقى الأثرية المهمة والتي كانت بمنزلة أجوبة شافية للعديد من الباحثين، وقدمت العديد من التوضيحات المهمة للحياة في تلك الفترة على المستوى الديني والاقتصادي والعلاقات الاجتماعية والمعتقدات التي كانت سائدة بين أبناء تل شعير، مثل بعض الدمى الإنسانية والحيوانية وأختام أسطوانية مسطحة وأسلحة برونزية وأدوات تستخدم في أعمال الزراعة والاستخدامات المنزلية وهي مصنوعة من الحجر والعظم، كما عثر على مجموعة جرار احتوت على هياكل عظمية تدل على أن الموتى قد دُفنوا وفق الوضعية الجنينية وهي غالباً ما تكون لأطفال صغار فارقوا الحياة، وتتم طريقة الدفن هذه بوضع الأجساد داخل جرار فخارية ضخمة لتعطيها الوضعية الجنينية الشبيهة بوضعية الجنين في الرحم حيث استُخدمت أغلب تلك الجرار الفخارية لغرض الدفن ويعود تاريخها للألف الثالث والثاني قبل الميلاد، كما تم اكتشاف مبنى يعود تاريخه لبداية الألف الثاني قبل الميلاد يحتوي على ساحة مرصوفة بالأحجار البيضاء يتخلّلها ممر وعدة قاعات كبيرة، في زاوية إحدى القاعات دائرة صغيرة محاطة بالحجارة كانت مُخصّصة لوضع النبيذ أو الشراب، كما تم العثور على موقد صغير من الآجر ومجموعة من الأواني الفخارية المكسورة، ويعتقد علماء الآثار أن المبنى استخدم لفترات زمنية طويلة لكون جدران المبنى قد احتوت نحو أربع عشرة طبقة طينية.
تل الفخيرية وشاديكاني وهو تل أثري في منطقة القامشلي يقع على بعد 2 كم جنوب مدينة رأس العين وعلى بعد نحو 85 كم شمال غرب مدينة الحسكة، تبلغ مساحة التل نحو 900000 م2 موزعة بين منطقة مرتفعة مساحتها 120000 م2 ومنطقة منخفضة مساحتها 780000 م2 ويعتبر التل من التلال الأثرية الكبيرة المهمة في سورية، ويعتقد بعض الباحثين أن تل الفخيرية يضم مدينة وشاديكاني التي كانت عاصمة مملكة الميتانيين في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وقد عثر خلال التنقيبات الأثرية في موقع التل على العديد من اللقى الأثرية المهمة والتي سلّطت الضوء على طبيعة الحياة في تلك الفترة، ونتيجة لهطل الأمطار في عام 1996 فقد عثر بالصدفة نتيجة جرف التربة في أطراف التل على تمثال منحوت من الحجر البازلتي لحاكم مدينة وشاديكاني اسمه «حدد يسعي» يعود تاريخه للقرن التاسع قبل الميلاد، يبلغ ارتفاع التمثال مترين وعرضه نحو 50 سم وكتب على التمثال كتابات باللغتين الآرامية والآشورية حيث كتب النص الآرامي على الوجه الخلفي للتمثال وكتب النص الآشوري على الوجه الأمامي له، وتشير الكتابات إلى أن التمثال قد نصب في معبد حدد ( تل حلف- جوزانا) وأن مدينة وشاديكاني كان اسمها سيكاني، كما عثر في التل على جرار مصنوعة من البرونز تحوي قطعاً نقدية ذهبية وعدداً من اللقى الأثرية المهمة، كما تم العثور على تمثال جميل وغاية في الإتقان من مادة المرمر لجندي روماني بالزي العسكري الرسمي من دون رأس وكذلك ذراعاه وهو يعطي فكرة عن مدى التنظيم والانضباط اللذين وصلت إليهما المدينة.

مستشار وزير السياحة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن