في الحقيقة لم أجد أبلغ من هذا التوصيف ليتصدر عنوان مقالي الأسبوعي، فالتوصيف من وجهة نظر شخصية متواضعة وبسيطة لم يبتعد عن المشهد الدراماتيكي الذي تابعناه خلال المؤتمر الصحفي للرئيس الأميركي دونالد ترامب وهو يعلن خطته المسماة «صفقة القرن» منذ ما يزيد على أسبوع تقريباً وإلى جانبه رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومغالاة ترامب في قوله: بأن تصوراته حول الصفقة سترضي الفرقاء السياسيين في إسرائيل، متجاهلاً الغياب الفلسطيني ورفضه لبنود الصفقة، بل ذهب أبعد من ذلك بكثير عندما طالب الفلسطينيين بأن يفرحوا بها.
فما قدمته الإدارة الأميركية تحت مسمى «السلام الإسرائيلي الفلسطيني» يدفعنا للوقوف عند نقاط مهمة:
أولاً: صحيح أن إدارة ترامب هي التي أعلنت الخطة بما تحتويه من تفاصيل كلية وجزئية تتعلق بمسارات تصفية كاملة لحقوق الشعب الفلسطيني، إلا أن ذلك لا ينفي أبداً أن إقدام هذه الإدارة على مثل هذا السلوك يعود لعدة عوامل:
– لم يكن هناك أي إدارة أميركية تدعم مسار التسوية العادل بشكل حقيقي، بل إن نجاح أي مترشح للوصول لسدة الحكم في البيت الأبيض كان نتيجة خضوعه لعدة اعتبارات بما في ذلك مراعاة الدعم غير المحدود للكيان الإسرائيلي في سياسته الخارجية وضمان أمنها وتفوقها.
– أبرزت الوقائع السابقة أن الإدارات الأميركية المتعاقبة سعت في محددات سياستها الخارجية لتأمين الظروف والمناخات المناسبة للوصول إلى ما يسمى بـ«صفقة القرن»، بما في ذلك الترهيب والترغيب في التوصل لاتفاقات سلام منفردة من كامب ديفيد إلى وادي عربة إلى أوسلو، والتي شكلت نماذج مصغرة من الخطة الأميركية الحالية.
– أما العامل الثالث فيتضمن شقين: تأثير الإنجيليين في صنع القرار داخل الإدارة الحالي، ودور الأخيرة في الدفع نحو تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع بعض الأنظمة العربية تحت ذريعة مواجهة التمدد الإيراني في ظل إحداث الفوضى داخل دول محور المقاومة.
ثانياً: لا يمكن تسمية ما تم طرحه من الإدارة الأميركية بأنها «صفقة»، لأنه من المنظور اللغوي ومضمونه، «الصفقة» تعبر عن حالة تجارية أو اقتصادية، ولو تجاوزنا ذلك، فالصفقة تتم بين طرفين وتحقق منافع مشتركة ومتوازية بينهما ولا خاسر في أحد أطرافها، على عكس ما تم طرحه من جوانب هذه الصفقة التي تصب بمجملها لمصلحة الكيان وبغياب الجانب الفلسطيني.
ثالثاً: تم تطبيق ما يزيد على 70 بالمئة من الخطة الأميركية خلال السنوات الثلاث الماضية عبر فرض الأمر الواقع من إدارة ترامب، ابتداءٍ باعتراف واشنطن بالقدس كعاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها، مروراً بتجفيف الموارد المالية لـ«أونروا» وتوطين اللاجئين والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل، وإعطاء الضوء الأخضر لضم المستوطنات في الضفة والسيطرة الأمنية الإسرائيلية على كامل المعابر والخنوع الأمني من السلطة للكيان الإسرائيلي والتطبيع المتسارع بين الأنظمة العربية مع إسرائيل، ولعلّ الحفاظ على سلاح فصائل المقاومة وتمسك اللاجئين بحق العودة وصمود الأسرى وعدم النجاح في تغير موقف سورية، هي أبرز النقاط التي تقلق بشكل مشترك كلاً من تل أبيب وواشنطن.
رابعاً: من حيث التوقيت السياسي، يمكن القول إن الإعلان عن الخطة يأتي في إطار خدمة التموضع الانتخابي لنتنياهو وترامب، حيث إن الأخير يريد محاباة ومغازلة اللوبي اليهودي الفاعل والمؤثر في المشهد السياسي الأميركي، وفي الوقت ذاته لتخفيف حجم الضغوط التي تواجهه داخلياً فيما يتعلق بقضية العزل نتيجة ملفي أوكرانيا وتجاوز سلطات الكونغرس، أما الأول فيريد استثمار هذا الإعلان لضمان نتائج الانتخابات المعادة للمرة الثالثة في آذار القادم لمصلحته، فدعوة واشنطن لخصمه السياسي في هذه الانتخابات متزعم حزب «أزرق- أبيض» بيني غانتس واجتماع ترامب معهما قبل وبعد إعلان الصفقة، يشي بأن هناك حراكاً وضغطاً أميركياً للوصول إلى صفقة تتضمن تشكيل حكومة وحدة وطنية داخل الكيان مهما كانت النتائج لمواجهة التحديات الإقليمية المتنامية، ولعل إقدام نتنياهو على سحب طلب الحصانة هو خير دليل على ذلك، ولكن هناك جانب آخر لهذا التوقيت والمتعلق بالتحولات والتغيرات التي شهدها النظام الإقليمي وخاصة بعد تبني محور المقاومة لإستراتيجية إخراج أميركا من المنطقة على إثر اغتيال الفريق قاسم سليماني، وبالتالي الإدارة الأميركية سارعت للإعلان عن صفقتها من دون انتظار انتخابات الكنيست خشية حصول تطورات متسارعة تضطرها للانسحاب من العراق أو سورية قبل الإعلان عنها.
خامساً: في ميزان الربح والخسارة، فإن كفة المصالح الإسرائيلية كانت هي الساحقة في مقابل حرمان الشعب الفلسطيني من أدنى حقوقه، وهذا برز في كامل جوانب الخطة الأميركية، وبشكل أخص على سبيل المثال وليس الحصر:
– هناك إقرار بالاعتراف بما يسمى «دولة إسرائيل» على حين أن الاعتراف بشبه دولة فلسطينية يحتاج لتنفيذ السلطات في الأخيرة عدة شروط خاضعة للإشراف والتقييم الإسرائيلي، أي الطرف الخصم.
– لا تحصل فلسطين على الموارد الاقتصادية والمقدرة بـ50 مليار دولار إلا بعد الاعتراف الإسرائيلي بدولة فلسطين وبتقييم من مؤسسات نقدية ومالية دولية غير نزيهة، وهذا يعني استمرار الحصار الاقتصادي على الشعب الفلسطيني لعقود من الزمن.
– يلاحظ في الجانب الأمني عدم تقديم دولة الاحتلال أي تنازلات، في مقابل الإصرار على أن الفلسطينيين هم من يمارسون الإرهاب، وتوجب الخطة السلطة الفلسطينية أو أي هيئة تحمل المسؤوليات بوقف الاعتداءات على الإسرائيليين، كما تسميها الصفقة، وأن تشرف أجهزة المخابرات الإسرائيلية على وضع وتنفيذ الترتيبات في هذا الجانب داخل الأراضي الفلسطينية، وهذه الأجهزة هي التي تقرر مدى فعالية الأجهزة الأمنية الفلسطينية.
– كما أنه بملف اللاجئين تقر الخطة تعويض اليهود وتمكين وجودهم داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، على حين تضع الخطة العقبات أمام اللاجئين الفلسطينيين وتسعى لتوطينهم لتصفية حق العودة وجميع الأمور المرتبطة بها من تسميات وأماكن ومنظمات.
– فيما يتعلق بملف الأسرى والمعتقلين فإن الرؤية لم تقدم أي فائدة لحل ملف المعتقلين من الشعب الفلسطيني، لأنهم خضعوا لمحاكم وقوانين إسرائيلية غير عادلة ووجهت لهم مختلف التهم المتعلقة بالقتل أو محاولة القتل أو التحريض به أو الإرهاب، ومن ثم إجراءات الإفراج عنهم وخضوعهم للموافقة الإسرائيلية لن تغير من الواقع شيئاً.
سادساً: وهي النقطة الأخطر والأبرز في كل ما تقدم وتتمثل في شقين أساسيين:
– الشق الأول: تراجع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عن تطبيق قرارات المجلس المركزي بإعلان حل السلطة والانسحاب من أوسلو، وهذا برز في خطاب عباس أثناء اجتماع وزراء خارجية جامعة الدول العربية عندما أعلن أنه أبلغ الإسرائيليين بتحمل مسؤولياتهم كقوة احتلال، وفق قرارات جنيف الأربعة، وهذا من شأنه عدم الإعلان الصريح والواضح للانسحاب من أوسلو وإبقاء السلطة في الاستمرار بالتنسيق الأمني مع إسرائيل.
– الشق الثاني ليس من باب المصادفة أن ينشر المتحدث باسم تنظيم «داعش» المدعو «أبو حمزة» تسجيلاً صوتياً وقبل يوم واحد من إعلان ترامب للصفقة يطلب فيه من أتباع التنظيم «مهاجمة اليهود والمستوطنات وإفشال خطة ترامب، واسترداد ما سلبوه من المسلمين، مضيفاً: ندعوكم إلى الالتحاق بجنود الخلافة الذين يسعون لإزالة الحدود والسدود التي تحول بينهم وبين نزال اليهود»، مع ما تضمنته الصفقة كشرط للاعتراف بدولة فلسطين بنزع سلاح الفصائل في غزة.
فعدم قيام الفصائل بتسخين الجبهات العسكرية والدعوى للمقاومة الشعبية قد يدفع الشبان وبعض مقاتلي هذه الفصائل للانضمام لداعش، للقيام بعمليات يريدها الإسرائيلي والأميركي باسم داعش لإثبات مزاعمهم بأن ما يحصل في غزة هو إرهاب، ولنزع سلاح المقاومة عبر استقطاب التحالف الدولي بقيادة أميركية وخاصة قبل مغادرتهم العراق.