ثقافة وفن

الراحل منير كيال في آخر أحاديثه الصحفية لـ«الوطن» … طوّع التراث كي تعيشه الحياة المعاصرة وتتلاءم معه … دمشق بلده وفيها تفتّحت عيناه على النور ولها جهوده

| سوسن صيداوي- ت: طارق السعدوني

مع رحيل منير كيال المؤرخ الدمشقي، تسترجعه صحيفة «الوطن» التي احتضنت كتاباته الأسبوعية لسنوات، وخصّها بحبه، تسترجع آخر لقاء أُجري معه صحفياً، والذي يعطي خلاصة لرحلة هذا المؤرخ الشفهي الذي أحب مدينة كما هي ببساطتها، وبقي حياته كلها يقدمها بالحب والبساطة، ويظهر الحديث معاناة الكاتب حتى استطاع أن يقنع المؤسسات بضرورة التوثيق لما يطلق عليه التراث الشعبي، والمحكي أحياناً..

في الجنبات والزوايا، في الساحات والحارات، بين الياسمين الدمشقي والفل البلدي، وبين النارنج والكباد، وبين البحرة والحمامة الستيتيّة، وبين ضحك الأطفال وأحاديث الكبار، ومن زحام الحياة وضجيجه اللامحدود، انطلق منير كيال من بين كل التفاصيل الدمشقية سواء المعمارية أو الحياتية وحتى التراثية إضافة إلى الكثير من التفاصيل، كي يقول في كتبه العشرين: هنا دمشق.. محبوبتي، وهذي دمشق.. بلد الحب والجمال والعز والفخار، منير كيال شبّ على عشق دمشق ورغِب في أن يؤرّخ كلّ ما فيها، كردّ للجميل، وباعتبار مدينته دمشق، وطناً لكل الأوطان، فإن حبّه الساكن لها سيبقى، ولو بعد حين، في قلبه أكثر اتساعاً وأكثر عمقاً.
جريدة «الوطن» زارت منير كيال في منزله في مشروع دمر.. وإليكم الحوار:
كيف كانت الحال أيام الطفولة والدراسة؟
ولدت في حارة «كيوان» في ساحة الأمويين، فيها كان يمرّ نهر، وضِعت عليه علب من «التنك» كي نستطيع عبوره، وبدلا من الجامع الحالي الموجود في المنطقة كان هناك ملعب كنا نحن أولاد الحارة نجتمع فيه إما لنلعب وإما لندرس، ولكننا انتقلنا من هذا المكان إلى عدة أماكن أخرى، فسكنا في منزل في منطقة «زقاق الحكر». ولمّا انتقلت إلى المدرسة كنت تعلّمت على يد خيرة من الأساتذة منهم عبد الحميد ترتر، وشاكر مصطفى الذي كان يضع ملّخص الدرس على السبورة بوساطة طباشير ملونة ومن خلاله نحفظ الدرس، فهؤلاء الأساتذة هم من قاموا بتأسيسنا.

إذاً، زمن العطاء انعكس عليك وجعل منك رجلاً معطاء؟
طبعا.. حتى عندما التحقت بجامعة دمشق قسم الجغرافية، قام بتدريسنا أساتذة كبار منهم أنور نعمان، نظمي موصلي، وصلاح عمر باشا الذي دعاني كي أقيم معرضاً في الجمعية السورية التي كان مقرها في ساحة المدفع الحالية، وبعدها أمّن لي مكاناً مخصصاً لتحميض وتكبير الصور، وحينها كان عمري عشرين سنة.

لماذا عملت وأنت طفل صغير؟
قبل الحصول على الشهادة الابتدائية كنت أعمل في العطلة الصيفية في مطعم «العربي» في المرجة، مقابل أجر عن كل يوم عمل ليرة سورية، ولكن بعد أن حصلت على الشهادة طلب مني أبي أن أترك الدراسة، لكنني طلبت من عمي الكبير أن يتدّخل، والذي أعطى أبي المبلغ الذي كنت أحصلّه أجراً، مقابل أن أكمل تعليمي، فأبي لم يؤمن بالتعليم يوماً، وهكذا أكملت تعليمي وكان عليّ أن أعمل كثيراً مع الدراسة كي أؤمّن مصاريفي، وكنت أعطي أمي أحياناً وأرضي والدي، لهذا عملت أيضاً في معامل الزجاج وأحمل الزجاج من الشاغور إلى الشيخ محي الدين واضعاً إياه على رأسي حتى أصل، وأجد مكاناً لبيعه بعد أن أفرشه على الأرض.

هل تمسكك بالعلم كان من منطلق كل ممنوع مرغوب، أم لأنك تريد أن تثبت نفسك وبأن قرارك محق؟
بل من منطلق أن العلم هو نور، فالإنسان الجاهل لا يستطيع التعامل مع الحياة بمفهوم صحيح بعكس المتعلّم، ثم كان لديّ مجموعة من الأصدقاء وتعلمنا كلّنا في المدرسة نفسها، وبالنسبة لي كان أمراً مزعجاً جداً أن يتابعوا تعليمهم من دوني في مدرسة التجهيز ومنهم تيسير الرفاعي، نزار عرابي، ماجد حافظ.
في عام 1969 بعد رفض كتاب «رمضان وتقاليده» من وزارة الثقافة قال لك الأستاذ نور الدين حاطوم «اكتب.. اكتب وسيأتي يوم يحترمونك ويبحثون عنك».. اليوم تم تكريمك من فرع دمشق لاتحاد الكتاب العرب في المركز الثقافي في أبو رمانة.. هل أنت سعيد بهذا التكريم؟
في يوم التكريم تذكرت الأستاذ نور الدين حاطوم وتمنيت لو رأى هذه اللحظة.

هل هذا التكريم كاف؟
بل هو كثير عليّ، فأنا لم أقم بشيء يستحق، لم أكن أكثر من وفي لمدينة دمشق.

إذاً لم تنتظر تكريماً.. لأنّ العطاء لا ينتظر مقابلاً؟
تماماً.. العطاء لا ينتظر مقابلاً، فهذا واجب عليّ تجاه هذه المدينة، فنحن أبناؤها الذين تربينا وعشنا فيها، الشام بلدي وفيها تفتّحت عيوني على النور وفيها تعلمت، ولها دين وفضل علي وأنا أعتبر أنني أوفيها حقها من خلال ما قدمته عنها في كتبي ومقالاتي التي نشرتها والتي سأنشرها، ولهذا أنا أرغب دائماً في تطويع التراث بما يتلاءم مع الحياة المعاصرة كي تعيش الحياة المعاصرة التراث، وأتمنى ممن يأتي بعدي بأن يكمل ما بدأت به.
اليوم هناك تشويه للكلام وللعادات الدمشقية الموروثة، وما يزيد الأمر سوءاً أن مسلسلات البيئة الشامية تخدم هذا التشويه؟
هذا صحيح.. هناك الكثير من الأعمال التلفزيونية تقوم بهذا، فعلى سبيل المثال كلمة «زبون العوافي» نراها في أعمال المخرج بسام الملا، حاضرة في غير مضمونها الحقيقي وتأتي الكلمة في الجملة التالية «جاء زبون العوافي» للدلالة على قوة حظه، لكن هذا أمر خاطئ، فـ«زبون العوافي» في العرف الشعبي هو «خدين» أي عشيق المرأة المتزوجة، إذا هناك تشويه واضح لمقولاتنا، لهذا حاولت أن أصححه من خلال كتاب طبعته وزارة الثقافة كان يحمل اسم «الهمشرية» لكنني اضُطررت لتغيير اسمه، إلى إيقاعات دمشقية، مع أن «الهمشرية» هي لوصف الإنسان الذي يتآخى مع الإنسان على السراء والضراء، ويصبح الاثنان بطباع واحدة وإذا أخطأ أحدهما يقوم الآخر بتصحيح خطئه.

شيخ المؤرخين محمد دهمان كان يقول لك بعد أن يرسلك إلى مكان ما: «صف المكان وكن أمينا».. إلى أي مدى الأمانة مهمة سواء في المعلومة وحتى في الحياة؟
الشيخ محمد دهمان له فضل كبير علي، فهو من علّمني كيف أؤرخ وأنقل المعلومة وكيف التقي الناس، وبالفعل عندما كان يرسلني إلى الأماكن ويسألني عنها ويقوم بإرشادي وتوجيهي، فهو من علّمني طريقة البحث العلمي، والأمانة العلمية هي الشيء الصح في حياتنا، فمن لا يكون أميناً على العلم فهو إنسان جاحد، إذاً الأمانة هي شرط أساسي في نجاح المرء.

إلى أي مدى قدّم لك التصوير الفوتوغرافي الإفادة في عملك التأريخي؟
كثيراً.. ومرة كنت بعت ساعتي كي أشتري فيلماً للكاميرا، حتى إنني كنت أصور وأحمض وأكبّر الصور في بيتي، والصور التي كنت ألتقطها وأنشرها في كتبي إلى جانب المعلومات جاءت لتوثيق المعلومة ولتأكيد صحتها.

ذات يوم قلت: «أولادك لا يتبعون خطك»، هل ما زالوا كذلك إلى الآن؟
إنهم لا يحبون القراءة ولا التأليف وليس لديهم أي من هذه الاهتمامات، وهذا أمر أعتبره طبيعياً في ظل هذه الظروف الحياتية وفي ظل هموم الأسرة التي يعانون منها، وهذا لا يعني أنهم لا يقدّروني، على العكس هم مقدّرون جداً لي ولعملي، ولكنّ أعباء الحياة ومتطلباتها تصرفهم عن الاهتمام بالكتابة والبحث والقراءة، ولو توافر عندهم كل شيء لكان الأمر مختلفاً.

كيف تمضي أوقاتك في الوقت الحالي؟
أقضي وقتي كلّه في القراءة والكتابة.

اليوم كيف ترى عيون منير كيال الشام؟
في الوقت الحالي لا أستطيع رؤية الشام فهي ليست الشام، فالشام محبة وإخاء وإيثار وطيبة ووفاء.

هل يمكن أن نقول إن هذه المرحلة ستؤرخ مجداً جديداً للشام؟
إن شاء اللـه لأن الإنسان إذا لم يمر في المحن والصعوبات والأزمات لا يعود إلى أصالته، وعليه أن يعاني ويتألم حتى يعرف قيمة نفسه أولا ومن ثم قيمة هذا البلد، إذا الوفاء من طبع أهل الشام وصحيح أن الظروف الحالية قهرتهم، إلا أن أملي كبير بأن تعود الشام كما كانت.

أي حارة شامية محببة أكثر على قلبك؟
بالتأكيد حارة الشاغور،على الرغم من أنني أسكن هنا في مشروع دمر، إلا أنني كنت أذهب إلى حي الشاغور وأمشي هناك، فسكانه يذكرونني بأصلي وبأهلي وبجيراني وبكل حياتي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن