خليل الموسى ومعايير الشعر في الغرب … معرفة الآخر والانفتاح على حضارته عامل مهم من عوامل الازدهار الثقافي
| جُمان بركات
يفضي كتاب «معايير الشعر في الغرب» لمؤلفه د. خليل الموسى لمعرفة الآخر إلى معرفة الذات، ويتعذر على المرء معرفة ذاته بدقة إذا كان جاهلاً بالآخر، فمنذ أن كتب رامبو في مقدمة رسالته لأستاذه عبارته الشهيرة: «إنما هو الآخر»، والعالم مشغول بقضايا الحوار والمعرفة، فالذات منقسمة على ذاتها، وهي جمع لا مفرد، ثم إن العلاقات بين الـ«أنا» والـ«أنت» والـ«هو» كائنة منذ كان الإنسان، وإذا كان «أنا» هو الآخر فعلي أن أسأل نفسي دائماً: من أنا؟ وأين أنا؟ ومن الآخر؟ وأين هو؟ وإلا فكيف أتعامل معه تقنياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً؟ ثم هل أستطيع ونحن في عصر العولمة أن أغلق علي باب المنزل ونوافذه وأعيش وكأنني جزيرة معزولة عن البشرية والكون في آن معاً؟ ولذلك فمن الصعب أن أتحاور مع مانسميه خطأ بـ«الآخر» حسب مقولة رامبو، من دون أن أكتشف حقيقته وصورته.
خصص الكتاب الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب لمعرفة الآخر، ومعرفة جانب واحد من جوانبه، وهو الشعر ونقده، والتوقف عند المحطات الكبرى والمؤسسات والمذاهب والحركات، من دون إهمال الأعلام الكبيرة التي كان لها النصيب الأكبر من الفاعلية، والكتاب ليس لاستعراض التاريخ الشعري والنقدي للغرب بقدر ما هو توخي معرفة الآليات التي ارتكز عليها هؤلاء في إرساء معايير نقدية علمية للشعر وتطوره على مرحلة زمنية طويلة، بدأت بمعايير المشابهة سواء أكانت خارجية أم داخلية، وانتهت إلى معايير الاختلاف والمغايرة، وهي في حقيقة الأمر معايير صارمة ودقيقة، فالشعر بين الفنون كالذهب بين المعادن وهما يقاسان بالدرجات من جهة وبحسن الصياغة من جهة ثانية.
توصلت الدراسة الإنسانية المعاصرة إلى نتيجة مهمة في هذا المجال، وهي أن المؤلف ليس وحده من يكتب النص، فلكل نص ذاكرة ورؤوس كثيرة بعيدة وقريبة مكاناً وزماناً تطل من بين سطور النص أو خلفها، وكذا شأن الحضارات فهي تتعارض وتتلاقى وتتداخل، ويستدين بعضها من بعض كالتجارة تماماً، ولكن الصحيح أيضاً أن رؤوس النص ليست متشابهة دائماً، فثمة رؤوس قد هرمت وأخرى لا تزال فتية فاعلة، ومن هنا لا ضير من معرفة الذات ونقدها ومعرفة الآخر ونقده أيضاً، لا لمجاراته والسير على منواله، وإنما للحوار معه ومنافسته والتفوق عليه لتكون الـ«أنا» عاملاً حضارياً فتياً.
إن معرفة الآخر أو الانفتاح على حضارته عامل مهم من عوامل الازدهار الاجتماعي والفكري والثقافي، ولكنه عامل مساعد إذا وجد مناخاً مناسباً، على حين أنه ربما كان عاملاً يعوق أي ازدهار إذا وجد مناخاً ساكناً لا يقبل التحوّل الذاتي ولا التغيير، وليس مقبولاً هنا أن نتهم الآخر بأنه المسبب الأول والأخير في تأخرنا، فعلى كل ذات أن تنهض على قدميها ومن داخلها، وألا تستعين بالآخر أي آخر ليصنع نهضتها، ولا يمكن لثقافة أي شعب أن يصنعها شعب آخر إلا بناء على حاجة هذا الآخر حتى لو كان أخاً، فالفرانكفونية تعمل لمصلحة الثقافة الفرنسية، وإن كان صناعها من البلدان التي خضعت زمناً للاستعمار الفرنسي، والأنكلوسكسونية تعمل لمصلحة الثقافة الإنكليزية، وإن كان صنّاعها من بلدان الاستعمار الإنكليزي وشركائه، وهم يوظفونها لمصالحهم الخاصة، ويخشى هنا على الهوية الثقافية للشعب المغلوب، كما يخشى على شخصيته وتقاليده قاطبة، وأن يصبح كوكباً تابعاً بلا مدار ولا أهداف، ومع ذلك فإن الانفتاح على الآخر ضرورة وفيها صفات إيجابية كثيرة، وخاصة إذا عرفنا أن نتحاور معه، في الاطلاع والمعرفة ثم مجاوزة الذات وتنشيط حركتها إلى الإبداع على صورتها لا صورة الآخر، وهذا يعني أن يظل العربي عربياً والغربي غربياً، وأن مقولة تماهي الأجناس البشرية وانصهار إبداعاتها في بوتقة واحدة أمر محفوف بالمخاطر وأكذوبة من أكاذيب عصر العولمة الذي يصهر الثقافات، ويحولها إلى مواد أولية لمصلحة ثقافة القطب الواحد وهيمنته اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، ولكن الأمة بحاجة دائماً إلى عدو «يحركها ويوقظها من غفلتها، مثلما هي بحاجة إلى صديق» يقف إلى جانبها في أثناء المحن والشدائد، وكثير من الدارسين المصريين ومنهم عمر الدسوقي رأوا في مدافع نابليون على الإسكندرية سبباً من أهم أسباب النهضة العربية الحديثة.
ولا يحسبن أحد أن فاعلية الثقافة أقل أهمية من فاعلية السياسة أو الاقتصاد، وإنما هي أكثر خطورة وأعمق، فهي تعمل في الخفاء على تهديم الهوية أو بنائها، وخطورة الصفوة الثقافية لاتقل عن خطورة الصفوة العسكرية داخلياً وخارجياً، فإذا استولت أمة ما على هدم جذورها فإنه يسهل عليها حينذاك السيطرة عليها اقتصادياً من دون معارضة أو حروب، ولا يحسبن أحد أيضاً أن هذه العلاقات تقتصر على ما يجري بين الـ«أنا» والآخر الغربي، وإنما هي قائمة أيضاً داخل الـ«أنا» بمفهومها الرامبوي أيضاً (أنا=آخر)، ولذلك وجدناها ونجدها بين الأقطار العربية قديماً وحاضراً، كما هي موجودة بطبيعة الحال بين أعلام الثقافة الكبار، فقد ظل أدب المغرب العربي تابعاً لمشرقه، حتى إن شعراءه الكبار أطلقت عليهم ألقاب المشارقة، فهذا بحتري الأندلس وذاك متنبي الأندلس ونحن نشاهد اليوم حدود الثقافة الإقليمية تترسّخ –للأسف الشديد- بين الأقطار العربية سراً أو علناً، وكل منا يحاول أن يهيمن على الآخر شعرياً أو روائياً أو نقدياً، ولماذا نذهب بعيداً ونحن نعلم أن عشرات الشعراء كانوا في بلاط الدولة، ولكن شمس المتنبي حجبت عن أعين القراء قصائدهم، ثم صحيح أننا اليوم في عصر النص وعصر القارئ ولكن لبعض الأسماء وهجاً لا يغيب بسهولة هكذا شأن الإبداع، ففي الرومانسية مئات الشعراء في الغرب، وفي الرمزية العشرات ولكن المرء يختصرهم بمن هيمنوا على الساحة الثقافية، وكثير من الدارسين في الغرب رأوا أن الوقوف عند الثلاثي (بودلير، رامبو، مالارميه) يُغني الحديث ويقدم صورة حقيقية عن الرمزية عالمياً، ويمكن أن ينسحب هذا الأمر على بقية المذاهب والحركات.
لاحظ المؤلف من خلال مطالعاته في الكتب والدوريات المختصة التي كانت تصدر في بدايات عصر النهضة ظاهرة كان لها شأن في المثاقفة مع الغربي، وأذهلته في هذا المجال شخصية تنويرية صارمة ومخلصة، وهي ذات مرجعية دينية، هي شخصية رفاعة رافع الطهطاوي الذي كان يسعى للمحافظة على الهوية من جهة وضرورة الانتفاع من حضارة الآخر من جهة أخرى، كما شغلته الدوريات التي كانت تعمل في هذا المجال (المقتطف- الهلال- البيان- المجلة المصرية.. إلخ) ثم جاءت بعد ذلك أبولو في مصر وشعر في بيروت وجاءت مجلة «فصول» أخيراً، ثم ينبغي ألا يغيب عن البال أن أصواتاً كثيرة مندفعة بعاطفة وحماسة اليوم خوفاً منها على استلاب الشخصية وضياع الثقافة والخصوصية، تدعو إلى ضرورة ابتداع نظرية نقدية عربية للخلاص من هيمنة الغرب، على الأقل نقدياً وهذه دعوة إيجابية وضرورة ملحة للمشاركة في حركة الثقافة الإنسانية، مع أن كثيرين منا يعتقدون بأن الحضارة الإنسانية من صنع البشرية جمعاء، ولكن هذه الدعوة تحتاج إلى وضع الخطط والمناهج ومعرفة الآليات التي توصل بوساطتها الغرب إلى التفوق في مجال النظريات الأدبية، وأهم الأسباب التي كانت وراء تفوقه حرية القول أولاً وزواج الفلسفة والنقد ثانياً، ولو استعرضنا معظم النقاد الكبار في الغرب لأدركنا ذلك بسهولة فقد كانوا فلاسفة قبل أن يكونوا نقاداً بدءاً من أفلاطون وأرسطو إلى كولردج إلى نقاد القرن العشرين، وهذا ما نحتاج إليه فعلاً، ولكن الداعين إلى ضرورة ولادة نظرية نقدية عربية يعملون في مجالات الترجمة أو التدريس الجامعي وصلاتهم بالفلسفة واهية وهم لا يفعلون شيئاً سوى أن يعلنوا بحماسة بالغة ضرورة أن تكون للعرب نظرية نقدية، ولكن كيف؟ ومتى وأين، فهذا عند الآخرين؟