كتاب حول الكتابة … مفاوضات مع الموتى والأسئلة الصعبة.. لمن ولماذا ومن أين نكتب؟!
| هبة اللـه الغلاييني
تقول الكاتبة الكندية (مارجريت أتودد) عن كتابها بأنه كتاب عن الكتابة، مع أنه ليس عن كيفية الكتابة… وهو أيضاً ليس عن كتابة شخص بعينه أو عصر محدد أو بلد دون آخر… إنه عن الموقف الذي يجد الكاتب نفسه فيه، أو الموقف الذي تجد الكاتبة نفسها فيه، والذي قلما يختلف من كاتب إلى آخر… وما هذه الكتابة، بحال من الأحوال؟ هل نشاط إنساني؟ أم إنها تكليف إلهي، أم مهنة، أم عمل مضجر نؤديه من أجل المال، أو لعلها فن؟ ولماذا يشعر كثير من الناس أنهم مجبرون على أدائها؟ وكيف تختلف الكتابة عن الرسم مثلاً أو التأليف، أو الموسيقا، أو الغناء، أو التمثيل؟ وكيف ينظر من يقومون بذلك العمل إلى أنفسهم ونشاطهم من حيث العلاقة معها؟ وهل تبعث آراؤهم بعض الرضا؟ وهل يتغير مفهوم الكاتب من حيث هو كاتب، كما يفسره الكتاب، على مدى الزمن؟ وما الذي نعنيه بالضبط عندما نقول: كاتب؟ أي نوع من الكائنات نتصور؟
لا يستمد هذا الكتاب قيمته من أهمية ما يطرح من أسئلة حول الكتابة والكتاب فحسب، ولكن أيضاً من مكانة مؤلفته وقيمتها على الساحة الأدبية في كندا والعالم.
فلقد رسخت أتودد مكانتها الأدبية كروائية وكاتبة للقصة القصيرة وشاعرة، وناقدة أدبية، إضافة إلى إسهاماتها في الكتابة للأطفال. ووصلت أعمالها، منذ بدأت النشر عام 1961، إلى أكثر من ثلاثين كتاباً، ترجم منها إلى أكثر من 35 لغة عالمية، كما أدرجت ضمن مناهج دراسة الأدب في المدارس والجامعات، وأصبحت مادة للحوارات الأدبية والمراجعات النقدية وأبحاث التخرج في أقسام الأدب حول العالم. وقد حصلت الكاتبة على العديد من الجوائز أهمها جائزة بوكر الأدبية عام 2000 عن روايتها (القاتل الأعمى).
ولدت أتودد في 18 تشرين الثاني 1939 في مدينة أتوا بكندا، وهي الطفلة الثانية بين ثلاثة أبناء. وفي صباها الأول كانت تقضي معظم أيام السنة مع أسرتها في غابات كوبيك وأونتاريو بكندا، حيث يتابع والدها أبحاثه في علم الحشرات، وكانت تعود إلى تورنتو أيام الدراسة. بدأت تمارس الكتابة الإبداعية منذ السادسة عشرة من عمرها. تخرجت في جامعة تورنتو عام 1961، حيث حصلت على ليسانس الآداب مع مرتبة الشرف. بعدها حصلت على درجة الماجستير من جامعة هارفارد، ثم عادت لاستكمال دراستها للدكتوراه ولكنها لم تتمها.
من أهم أعمالها الروائية التي تناقش اهتمامات نسوية بسخرية لاذعة رواياتها «امرأة للأكل» و«معاودة الظهور» و«الحياة قبل الرجل» و«إيذاء جسدي».
كتابها (مفاوضات مع الموتى) هو ثمرة محاضرات حول الكتابة. إنها حول الموقف الذي يجد الكاتب نفسه فيه، أو الموقف الذي تجد الكاتبة نفسها فيه، والذي قلما يختلف من كاتب لآخر. ويطرح الكتاب عدة تساؤلات: ما الكتابة؟ هل نشاط إنساني، أم تكليف إلهي، أم هي مهنة، أم عمل مضجر نؤديه من أجل المال، أو لعلها فن؟ ولماذا يشعر كثير من الناس أنهم مجبرون على أدائها؟ وكيف ينظر من يقومون بذلك العمل إلى أنفسهم ونشاطهم من حيث العلاقة معها؟ وهل تبعث آراؤهم بعض الرضا؟ وهل الكاتب هو من يضع الشرائع للبشر ولا يعترف العالم بفضله، كما يعلن شيلي في تفاخر متباه، أم إنه أحد الرجال العظماء المتعصبين ثقيلي الوطأة الذين يصفهم كارليل، أم أنه ذلك الشخص المحطم العصابي النداب أو الأخرق عديم الجدوى الذي يحبه كتاب سيرته المعاصرون؟
هناك ثلاثة أسئلة يطرحها الكتاب على أنفسهم، أو يطرحها عليهم القراء: «لمن تكتب؟ لماذا تفعل ذلك؟ من أين تأتي تلك الكتابة؟»
تجيب الكاتبة عن الدافع الذي يدفع بعض الكتاب للكتابة:
أن نسجل العالم كما هو. أن نكتب الماضي قبل أن يذهب جميعه طي النسيان. أن ننقب عن الماضي لأنه قد غمره النسيان. أن أشبع رغبتي في الانتقام. لأنني أعلم أنه لا بد أن أواصل الكتابة وإلا أموت. لأن الكتابة تعني المغامرة، وبالمغامرة وحدها نعرف أننا على قيد الحياة. كي نضفي النظام على الفوضى، كي أبهج وأعلم، كي أسعد نفسي، ولأعبر عن ذاتي، لأعبر عن نفسي في جمال، كي أبدع عملاً فنياً كاملاً. كي أكافئ الأخيار وأعاقب المذنبين، أو العكس.
كما جاء في دفاع ماركيز دي ساد، الذي يستخدمه الساخرون. كي أرفع مرآة في مواجهة الطبيعة، كي أرفع مرآة في مواجهة القارئ. كي أرسم صورة للمجتمع ومساوئه. كي أعبر عن المسكوت عنه في حياة العامة. كي أسمي ما لا اسم له. كي أدافع عن الروح الإنسانية واستقامة الإنسان وكرامته. كي استهزئ بالموت. كي أكسب نقوداً أشتري بها أحذية لأولادي. كي أكسب نقوداً أستطيع أن أسخر مما سبق وسخروا مني. كي ألقن الأوغاد درساً. لأن الإبداع شيء إنساني. لأن الإبداع تشبه بالإله. كي أغزل حكاية رائعة. كي أسلي القارئ وأسعده. كي أسلي نفسي وأسعدها. كي أمضي الوقت مع أنه سيمضي بحال من الأحوال. ولع مجنون بالكتابة، ثرثرة قهرية. لأنني أجد نفسي مدفوعاً إليها بقوة خارج إرادتي. لأني بي مسّ. لأن ملكاً يملي عليَّ ما أكتب، كي أخدم التاريخ، كي أبرر ما يفعله اللـه بالإنسان، كي أسجل العصر الذي أعيشه، كي أشهد على الأحداث المرعبة التي عشت بعدها، كي أتحدث نيابة عن الموتى، كي أحتفي بالحياة بكل تعقيداتها.
وحيث أنني فشلت في موضوع الدوافع، فقد انتهجت مقاربة أخرى: فبدلاً من أن أسأل كتاباً آخرين لماذا يمارسون الكتابة، سألتهم كيف يشعرون بها؟
لم يرغب أي منهم في معرفة ما أعنيه بكلمة «الدخول». فقال أحدهم: إنها مثل السير في متاهة، من دون معرفة أي نوع من الوحوش، قد يقبع في الداخل، وقال آخر إنها مثل تحسس الطريق عبر نفق، وقالت أخرى إنها تجعلها تشعر وكأنها في كهف، فهي ترى ضوء النهار من الكوة، ولكن هي نفسها في الظلام. وقال آخر: إنها تجعله يشعر وكأنه تحت الماء، في بحيرة أو محيط. وقالت أخرى: إنها تذعر وكأنها في غرفة دامسة الإظلام، تتلمس طريقها، وعليها أن تعيد ترتيب الأثاث في الظلام، وعندما ينتظم كل شيء يضيء النور.
يشترك كثير مما جاء في وصف الكتابة بأنها عملية لا تخلو من العقبات والغموض والخواء وضلال السبيل والظلام وظهور ضوء كالشفق، يصحبها جميعاً صراع أو طريق أو رحلة، فقد يعجز المرء عن رؤية الطريق أمامه، ولكن ينتابه شعور بأن أمامه طريقاً، وأن التقدم في هذا الطريق إلى الأمام يسفر عن حالات من الرؤية.
من المرجح إذاً أن الكتابة تتعلق بالظلام، وبالرغبة في الدخول فيه، أو الاضطرار إلى ذلك وإضاءته، إذا حالفنا الحظ، ثم إعادة تسليط الضوء على كل شيء، يدور هذا الكتاب حول ذلك الظلام وتلك الرغبة.