الباعث الذي يدعونا للربط بينهما بعد إحداث قراءة في مفاهيم كل منهما، من باب أنهما لا يشبهان بعضهما، بحكم أن لكل منهما دوره وشخصيته وحضوره، واعترافنا المنطقي أن الإعلام بند من بنود الثقافة التي تمثل شخصية الأمة ولغتها لبها الناطق بها، بكل ما تعنيه أبعادها التاريخية والحاضرة والمستقبلية، التي يمثل لها الإعلام فضاءها الخاص بها، والتي تلائم طبيعتها الإيجابية التي لا تكون حية إلا بعد تهذيبها إعلامياً، فإذا لم يسعَ الثقافي لتقديم الكيف، فإنّ الكم يربك الإعلام كما في حالته، وأي نجاح تحققه الثقافة من خلال رعايتها لتنوعها يتحول إلى عمليات منتجة وفاعلة، تضيف إلى مجتمعها وحكومتها ودولها قوة هذه التي تتحول بالشكل الطبيعي إلى خلق إعلام ناجح، وهو عينها، يعلن أن ما يمتلكه أكثر من جيد، فإذا قصّر ظهر خلله، ليتحول إلى ناقل سلبي، وإن أجاد أضاف إلى إنتاجها، أي إلى الثقافة انتشاراً إيجابياً ووعياً مضافاً، لما تملكه.
فالإعلام ليس ناقلاً أو موصلاً فقط، وإذا اعتبرناه كذلك، فإننا نبرئه من أي فشل أو خلل يقع به أو يشيطنه، لتقع المآسي في وجوه حاملها، وتنعكس على متابعيه بعد أن تخلق الذعر والهلع لدى مجتمعات البساطة، فهو مع الثقافة يقودهم إما كالقطعان إلى مجاهل التهجير والتدمير والتخلف والتسليم، أو إلى النهوض والتقدم وعدم الاستسلام للخطيئة والفشل.
إن طعم العطاء السياسي والاقتصادي تتذوقه الثقافة، وينقله الإعلام، فالعطاء الحكومي الحقيقي لابد أن يأتي بالنتائج الاجتماعية، وهذا ما يخدم الرؤى السياسية، فهل تعودنا العطاء من أجل الوصول إلى الأفضل؟ وهل تعلمنا هذا الفعل الجميل الذي لا يحصل على الاعتراف إلا إن كان نابعاً من الفكر العلمي بإرادة العقل العارف لما يفعل أمام ما نملك؟
نحن نحتاج إلى التغيير، لقد بليت ثقافتنا، واختلّ إعلامنا، فلا ضير في ألا نجدد في كسائنا، بل في فكرنا ومفرداته المنتمية، فالمعرفة تحتاج إلى ثقافة وتشجيع من مختلف جهات الحكومة، وبما أن السياسة طموحة لتحقيق الأفضل وبناء جسور بين أبناء الوطن الواحد المتنوع أولاً، ومن ثم مع المحيط القريب والبعيد ثانياً، فلابد من أن يكون دورها معززاً للانفتاح الذي يحقق التواصل مع الثقافات الأخرى، كما أنه يقدم التسامح من خلال فسح المجال للخيال والاستكشاف والإرادة دائماً وبناء مستقبل واعد للأجيال القادمة.
هل اكتشفنا عالمنا السوري وعملنا عليه قبل أن نذهب للحديث عن العوالم الأخرى؟ أيّ انسجام وتجانس حققناه ومزجناه ليتكون لنا مزاج وطبع يتحدث عنه الآخر؟ أيّ علاقة بناءة حققتها ثقافتنا وغزلتها ضمن لوحة فنية اسمها سورية؟ هل استلهمنا من هندسة الموزاييك المصنوع من المرايا المتعددة الأشكال لغة الصورة واللوحة الواحدة التي تجتمع فيها كل الأطياف والألوان؟ كيف باغتتنا الخيبات، وأصابتنا الصدمات، فذهبنا لاتهام الواقع، وطالب البعض بالتغيير؟ أقول ربما، ولكن فهم ارتباطها والحفاظ عليه ضمن جمالية وجودها أعتبره الأهم، فنحن البشر مهمٌّ لنا أن ندرك قيمة الاختلاف وعلاقته بالمدى المتسع الذي تمنحه الثقافة وتحترمه وتتعامل معه برصانة، فهل قدر الإعلام على تقديمه بالشكل الأمثل أو بالحد الأدنى المؤسس للصعود عليه؟
الثقافة المتجذّرة والمتحضرة تحتاج إلى بثها في فكر المجتمع، فهل نشرنا ثقافة القانون؟ أي مالك وما عليك، وثقافة الشراء، وثقافة البيع، وثقافة العلاقة بين المواطن والدولة، هذه التي تفشل مشاريع الفساد والانهيار وهدر قطرات العرق والدماء المتعلقة بالحياة، تتفتق عنها سبل طويلة لا نهاية لها، توصلها إلى المشهد المنشود بعد أن يلتقطها الإعلام، يعيدها إلى الحياة المؤيدة من لغة الحقيقة، فالثقافة شعر العالم الجميل، ووطن يشبه الدمعة المنهمرة على وجنة تمثل الوطن، الذي يقاوم الوحشية والهمجية والإرهاب والإبادة، فقضايانا ليست سواها في أيدينا.
يسأل الإنسان: لماذا يتقاسموننا كغنائم؟ فأين تياراتنا الفكرية وابتكاراتنا الفلسفية؟ ألا يجب علينا مراجعة موروثنا الثقافي ومناهجنا الكوميدية ومساعدة الإعلام في إحداث هذه العملية؟ وإلا فإننا سنبقى ندور حول أنفسنا، وبالتالي يكون مستقبلنا متاهة وحاملاً لمفاجآت مظلمة.
أين تكمن مشكلاتنا؟ هل تكون في ثقافتنا السياسية، أم في ثقافتنا التنفيذية، أم في ثقافتنا الاجتماعية؟ وهل نحن فعلاً في مأزق ثقافي يسيطر على هيكلية الدولة العربية التي فرّخت دولاً وحدوداً، ورويداً رويداً انتهى مشروع الأمة الواحدة والرسالة الخالدة، وتمّ القضاء على مشروع القومية العربية بهدوء عنيف.
لم تستفق الأجيال العربية بعد من هول ما جرى ويجري، من المسؤول؟ ألا يتم كل هذا أمام أنظار المجتمع العربي؟ ألا يعملون على قلب المفاهيم والقيم الدينية الأساسية والثقافية الأخلاقية لمصلحة العولمة والتبرّؤ من الشخصية العربية وحتى معناها؟ ألا يجري حرف المبادئ والثقافة عن أسسها؟ وأين؟ على شاشاتنا العربية التي نتفاخر بأن لدينا المئات منها، فماذا تبث ومن دون أي تدخل فاعل وحقيقي من أصحاب القرار الذين لم ينجحوا إلا بشن الهجوم الإعلامي على بعضهم.
خطابات كراهية وتحريض فيما بين حكومات دولنا العربية، والمستفيد الوحيد من كل ذلك أعداء هذه الأمة المجتمعة والمتفرقة حتى داخل الدولة الواحدة، وبشكل خاص التركي والإسرائيلي اللذان طورا الخطاب العدائي باتجاه شعبنا العربي، ومن داخله، وتحولا إلى مصادر ابتزاز ليس لنا، وإنما للعالم أجمع، وبشكل خاص للأمريكي والروسي، ومن ثم الأوروبي بالعموم، بعد أن قدما نفسيهما كقادرين على ضبط الشأن العربي واختراقه بالهيمنة والتطبيع والعدوان المباشر وغير المباشر.
نجاح السياسة يرتبط بعاملي الثقافة والإعلام، لأن الثقافة تعني التهذيب، فإذا انحرفت تنقلب على أصلها، لتكون سبباً في انتهاك حقوق الإنسان، أو عنصرية حين تطغى عليها نزعة الاستبداد، وإذا كان الإعلام من أعلم وأخبر ووثّق، ينبغي أن يكون ناقلاً ورافعاً ورساماً دقيقاً، يعمل على تطويرها، فنحن العرب برمتنا والسوريين خصوصاً، لن نكون غربيين أو أمريكيين ولا روساً أو كوريين، إنما يجب علينا أن نستفيد من ثقافات الآخر ونظم عمل إعلامه، فالنقل الأعمى والنقد السلبي لا يفيدان، يؤديان إلى تشويه الحاصل، وصحيح أننا بحاجة علمية دقيقة لتطوير القوانين والتشريعات، وفعلاً توجد توجيهات بذلك ضمن عملية تحديث كبرى استعداداً للمستقبل، ويحدث هذا واقعياً، ولكن هل هيأنا البنية الفكرية والثقافية والإعلامية المسؤولة عن البنية التحتية، لتقبل هذه القوانين؟ أم إنها تأتي في غفلة وبشكل مفاجئ لتحدث الاضطراب المكاني والزماني في فكر المجتمع وعلاقاته المتشعّبة حياتياً.
كما أننا بأمسّ الحاجة لتعريب ثقافتنا بشكل يوائم التطور الحضاري، ما يؤدي إلى تعريب وجودنا العربي الذي يمرّ الآن بأهم أزمة، وهي وجوده على الخريطة العالمية، وهذا يعني إن وصلنا إليه بنياناً نوعياً دقيقاً تسكن فيه العروبة التي تستنهض الشعب العربي.
هل يضلل سوء الظواهر الأخلاقية منظومة الثقافة؟ هذه التي أدت إلى أوخم العواقب في حياتنا السورية والعربية، وتاه الباحثون والمحللون والساسة في اعتبارها علة العلل، فمنهم من ذهب في العلاج بطريقة الوعظ، واختلف معهم المفكرون، وحتى المثقفون أنفسهم وصلوا إلى أن العلة في المخطط الخارجي، الذي نال من وجودنا كشعب وأمة، وشاغل الإعلام بالأحداث المتسارعة.
من كل هذا أقول: إن النضج يأتي من بيئتنا وداخلنا، والبشارة موجودة، وتشكل قوة إيحائية أكثر من مهمة، ترسم لنا معنى المرحلة القادمة، وضرورة تحويلها إلى قدوة بعد استجلاء واقعنا والاعتراف بما ينقصه والإقدام على ترميمه، وبهذا تنهض الثقافة، ويعلو كعب الإعلام على الصعد كافة.