لا يمكن النظر إلى ما يحدث في منطقة خفض التصعيد الرابعة على أنه مجرد معارك عسكرية بين الجيش السوري والمجموعات المسلحة والإرهابية، ولا يمكن تصنيفه أيضاً ضمن ما يروج له بأنه صراع بين الدولة والمعارضة، كما لا يمكن اعتباره وفق ما يصنفه البعض من إطار ضيق على أنه نزاع مسلح، بل ما تشهده أرياف إدلب وحلب تأتي في إطار الصراع الجيوسياسي بين قوى ومحاور متعددة، ستتبلور أكثر مع بروز نتائج الميدان على سلوكيات الفاعلين بالدرجة الأولى وعلى شكل التطورات التي تشهدها الأزمات المتفاقمة نتيجة وجود رابط فيما بينها بالدرجة الثانية، لذلك فإن معارك الشمال السوري هي أقرب لمعارك «كسر عظم» نتيجة انعكاساتها العسكرية والسياسية.
وهذا الصراع بجانبه الجيوسياسي يمكن قراءته في اتجاهين متناقضين وبصورتين تأثيريتين مختلفتين:
الأول: التأثير الإيجابي من قطف ثمار النتائج العسكرية، حيث يعتبر الشعب والدولة السورية هما أكثر الرابحين من تطورات نتائج الميدان، وخاصة أن إدلب وباقي مناطق شمال غرب سورية ومنذ ضمها لمنظومة مناطق خفض التصعيد في «أستانا» تحولت لرقعة جغرافية تشبه معسكر استقطاب للمجموعات الإرهابية وأرضية لتمتين نفوذهم وانطلاق عملياتهم، وورقة ابتزاز سياسية وأمنية وعسكرية وحتى اقتصادية بأيدي الدول الراعية لهم وبصورة أخص تركيا والولايات المتحدة الأميركية، بعد خروج السعودية من المشهد مع تحرير الغوطة الدمشقية، لذلك فإن نتائج الميدان وتوجهات الجيش السوري تتضمن تطبيق سوتشي عسكرياً وتخفيف حجم الدور التركي أحد أبرز معرقلي الحل السياسي، ويعتبر الشريكان الروسي والإيراني ضمن دائرة التأثير الإيجابي من التطورات العسكرية بشكل مباشر والصين الشعبية بشكل غير مباشر، فروسيا تفرض جديتها بمحاربة الإرهاب وتتحكم أكثر بزمام دفع العملية السياسية وفرض الأمر الواقع على تركيا بعد تنصلها من تنفيذ التزاماتها واستمرارها بالمراوغة السياسية، وهذا مؤشر على تعبيد الطريق أمامها لعودة ثقلها على مستوى النظام الدولي الذي يفرض حتمية تغير طبيعة النظام وتوازناته، أما الطرف الإيراني الذي يشكل هدفاً للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل فإنه يفرض نفسه لاعباً إقليمياً مؤثراً، لا يمكن تجاوزه، رغم كل التصعيد العسكري الذي هدد به والحصار الاقتصادي الذي فرض بحقه، على حين الصين التي تستعد لإطلاق أكبر مشروع اقتصادي دولي بتأثيراته المتعددة، فإنها تنظر لتحرير الشمال السوري بشكل متلاحق خطوة مهمة من حيث تمهيد الظروف الآمنة لمسار مشروعها إلى جانب تطوير البنى الخدمية، فضلاً عن أن الدول الثلاث ستكون أكثر ارتياحاً من ناحية تقليل المخاطر والتهديدات الأمنية التي تتعرض لها نتيجة عودة إرهابيي الإيغور ودول البلقان إلى مناطقهم وتحويلهم لأدوات داخلية فوضوية ضمن الحرب الناعمة التي تعتمدها الإستراتيجية الأميركية مؤخراً.
أما فيما يتعلق بالمحور أو المسار الثاني أي المتأثر السلبي من معارك خفض التصعيد الرابعة، فهي تتضمن دائرة كبيرة من الدول بما فيها الأوروبية والكيان الإسرائيلي الذي يراقب بحذر الخبرة القتالية المتراكمة والإمكانات النوعية للجيش السوري وحلفائه، ولكن الأكثر تضرراً وتأثيراً هما تركيا وأميركا.
فأنقرة التي راهنت على اقتطاع الجغرافية الشمالية بأكملها والعودة لميثاق «مللي 1920» باتت اليوم في أكثر المواقف حرجاً وحساسية نتيجة التقدم السريع للجيش السوري وتهاوي المجموعات المسلحة وتحصيناتها، وهنا لا نتحدث عن رغبات وعواطف بل عن الوقائع التي يبرزها الميدان والتي سيكون لها انعكاسات حتمية في المسار السياسي، فموافقة تركيا لدخول مسار أستانا جاء نتيجة عاملين: الأول خلافها مع واشنطن حول العلاقة مع الكرد، ورفض إدارة البيت الأبيض الانجرار وراء رغبات تركيا في إنشاء المنطقة العازلة نتيجة عدم القدرة على تحمل تبعات ذلك، والثاني يكمن في محاولة النظام التركي استغلال الصراع الأميركي مع كل من روسيا وإيران لإيجاد هامش تعاون اقتصادي يحقق مصالحها ومحاولة فرض الشرعية على وجودها داخل الأراضي السورية عبر إقامة نقاط المراقبة والعمل على ديمومتها.
وما نسمعه اليوم من تصريحات نارية وتهديدات عالية اللهجة والزج بمزيد من الجنود والآليات العسكرية للنظام التركي، لن يكون بهدف التمهيد لمواجهة عسكرية مفتوحة وموسعة مع الجيش السوري، ولو تخللها مناوشات وتبادل للقصف، بل هدفها إيجاد العراقيل لوقف التقدم السوري وللضغط على روسيا، بذريعة احتمال حصول مواجهة، للقبول بمطالب تركية في المباحثات السياسية لإنعاش الاتفاقات القديمة مجدداً أو إيجاد صيغ جديدة، وتأكيد حتمية عدم المواجهة محكوم بمؤشرين:
• الأول: إدراك النظام التركي بأن حلف شمال الأطلسي لن يقف إلى جانبه بأي صراع أو حرب خارجية وخاصة في إدلب، انطلاقاً من إدراك معظم دول الحلف بعدم قدرتهم في الدخول بحرب ضد روسيا وإيران والجيش السوري بهذا التوقيت، فضلاً عن نشوب خلافات بين بعض دول الناتو وخاصة فرنسا وألمانيا مع تركيا فيما يتعلق بعدوان «نبع السلام» وليبيا، وتغيير أولويات الحلف في الآونة الأخيرة مع ازدياد التحديات التي تواجهه.
• المؤشر الثاني: عدم تحمل النظام والداخل التركي أي تهور قد تدفع ثمنه باهظاً في الأرواح والاقتصاد الهش والذي يعاني تراجعاً يقدر بـ6.3 بالمئة خلال السنوات الماضية، ولو كانت قادرة فعلاً على الدخول المباشر بالحرب لدخلتها منذ بدء معارك حلب التي شكلت بداية تغير المشاريع والمسارات في الشمال، وخاصة أن تركيا لمست منذ تلك الحقبة جدية الموقفين الروسي والإيراني بدعم الجيش السوري، لذلك السيناريوهات الأقرب خلال الأيام والأسابيع القادمة يدور حول:
1- أن يستكمل الجيش السوري عملياته حتى تطبيق كامل سوتشي عسكرياً، على أن تبقى قنوات التواصل الدبلوماسي والعسكري الروسية التركية مفتوحة للتوصل لاتفاق جديد يكون أقرب لأضنة ولكن ببنود وتفاهمات جديدة ومحددة زمنياً، تبحث قضية سحب المسلحين للحدود السورية التركية بعمق 30 كم لحين البحث في مصيرهم وإمكانية حل جبهة النصرة شكلياً وتذويب عناصرها ضمن مجموعات ثانية، وقد يؤدي الجانب الإيراني دوراً أكبر في مساعيه الحميدة والوساطة خلال الفترة القادمة وخاصة في ظل التوتر الروسي التركي، وتلمس نجاح ذلك يكمن إما في الوصول لنتائج إيجابية خلال الاجتماع الثاني لوفدي روسيا وتركيا على أن يليه انعقاد اجتماع بين الرئيس الروسي مع نظيره التركي للإعلان عن صيغة التفاهم، أو تمكن إيران من خرق المشهد وتوسيع دورها في ظل الخلاف الروسي التركي خلال اجتماع زعماء أستانا بداية الشهر القادم.
2- أن يصر النظام التركي على السلوك العسكري ومحاولة فرض أمر واقع عبر تعزيز قواته العسكرية في نقاط المراقبة وإقامة نقاط جديدة في إدلب، وهذا يبقي حالة التوتر في أعلى مستوياتها يقابله إصرار سوري ودعم روسي للحسم العسكري، وقد نشهد ضمن هذا الإطار تصعيداً تركياً جديداً شرق الفرات لتعويض الخسائر في إدلب وللضغط على الروسي والأميركي بآن واحد للتعاطي مع المطالب التركية.
أما واشنطن وصقور إدارتها فهي تنظر بعين الخشية لتطورات إدلب، لذلك سارعت للممارسة نفوذها داخل المنظمات الدولية في مقدمتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الإنسانية للضغط على سورية وروسيا لوقف العمليات العسكرية في إدلب وأرياف حلب، وأعلنت تأييدها المطلق لتركيا في محاولة منها لاستهداف العلاقة بين دول أستانا ودك إسفين الخلاف بينهم، ما سيعقد الوضع أكثر لعرقلة تحرير إدلب، ليس انطلاقاً من حرص واشنطن على المصالح التركية بقدر خشية أميركا من الوجهة القادمة للجيش السوري والتي باتت محصورة فقط في استعادة شرق الفرات وإخراج الاحتلال الأميركي منها، وتصريحات المبعوث الأميركي لسورية جيمس جيفري تعبر عن هذه الحقيقة بشكل واضح وصريح حيث قال: «هذه المعركة خطيرة، يجب وضع حد لها، فمن شأنها تهديد الوجود الأميركي في المنطقة».
التطورات العسكرية قد لا تكون نهائية في الشمال السوري ولكن قد تكون مهيأة لحسم سياسي، وخاصة أن تركيا أصبحت على يقين بأن ما راهنت عليه ينهار أمام أعينها وباتت اليوم بين خيارات ضيقة جداً وعليها مراجعة حساباتها وخاصة أن الأميركي لن يكون له تدخل عسكري ولا دعم مباشر وهو يطالب الناتو للعب دور أكبر في الشرق الأوسط، نعم إننا في زمن الحسابات الدقيقة وهذا يتطلب الاستعانة بميزان الجواهرجي لحساب السياسات في الأيام القليلة القادمة.