«في انتظار رسائِل الغاز».. عبارة طغَت على حياةِ السوريين في الأسابيع الماضية، لدرجةٍ أشعرتنا وكأنها مستوحاة من مسرحيةِ «في انتظار غودو»، لنكتشف ببساطةٍ أنها مستوحاة منَ المثلِ القائل:
«الجمَّال لازم يعلي باب الدار».
دعونا نتفق أن أتمتةَ البيانات وصولاً لحلمِ الحكومة الإلكترونية الذي طالَ انتظارهُ يجب أن يكون مطلباً لكل السوريين، تحديداً لدولةٍ كسورية ما زال اقتصادها مبنياً على فكرةِ وجود الدعم الحكومي للكثيرِ من المواد الأساسية. هذهِ الأتمتة قد تسهم في القضاء غير المباشر على الفساد فيما لو تحققت، فالتجارب الغربية في مكافحةِ الفساد بطبقاته الدنيا والوسطى، استندت قبل عقودٍ من الزمن إلى فكرةِ إبعاد العنصر البشري عن تحديدِ الحقوق العينية لأنه حُكماً سيقع في فخ المحسوبيات والرشاوى، والاستعاضة عنه ببرامج وتطبيقات تعطي لكل ذي حقٍّ حقهُ بطريقةٍ لا يستطيع معها الموظف تمريرَ الملف المخالف لأن البرنامج أساساً لن يسمح.
من هنا تفاءلَ الجميع خيراً بفكرةِ البطاقة الذكية، فهل التفاؤل أوصلَنا إلى ما هو أبعدَ من التشاؤم؟
في التجربة السورية، ربما بالإمكان الذهابَ بعيداً بآليات توظيف البطاقة وتطويرها لتشكلَ قاعدةَ بياناتٍ يمكن من خلالها الوصول لفكرةِ الدفع الإلكتروني ضمن الأراضي السورية، هذه التقنية ستسهم عملياً بتحديدِ نسب أرباح المراكز التجارية، وبالتالي نسب الضرائب المترتبة عليها ووقف النزف الحاصل من خزينة الدولة جرّاء التهرب الضريبي.
في سياقٍ آخر، البطاقة الذكية مجرد كرتٍ غبي لا يساوي شيئاً من دون بنى تحتية، وعندما تفشل بتحقيق المطلوب منها فالمشكلة حكماً ليست بها، المشكلة في مكانٍ آخر لأننا نبدو أشبهَ بمن اشترى زينة للسيارة التي قد يشتريها بعد سنوات. على من يريد أن يوظِّف التكنولوجيا لتبسيطِ حاجات الناس أن يستوعب فكرة أن التكنولوجيا ليست أقوى ممن صنعها، فمهما عظمَ شأنها فستبقى مرتبطة بالعنصر البشري الذي يوظفها لكي تنجز مهامها الأساسية، إذ لا يمكن للمواطن أن يستبدلَ الوقوف بالشارع في البرد القارس لاستبدال أسطوانته، بالوقوف في الدور أمام مراكز تعديل البيانات، كان علينا الانتباه لفكرة أن أغلبية المواطنين لا يجيدون التعاطي مع المواقع الإلكترونية.
بذات الوقت هي بطاقة ذكية، لكنها حكماً لا تمتلك صلاحيات وزير النفط لتخرجَ وتصارح الناس بالأسباب الحقيقية لهذا النقص الحاصل بالمادة، رغمَ توافرها بسعر السوق السوداء؟ هي ذكية لكنها ليست بالذكاء الذي يسمح لها بأن تجيب من الذي يقرِّر حجم الإنتاج وآليات التوزيع على المعتمدين! هي ذكية لكنها ليست بالذكاء الكافي لتستنجدَ بنا لأن هناك فيما يبدو من يتعمّد إفشالها ليقول مستقبلاً: البطاقة فشلت، إذاً تعالوا لنرفع الدعم!
هي ذكية لكنها ليست بالذكاء الكافي لتشرح لنا سبب مطالبة أعضاء مجلس الشعب بإلغائها! فبدلاً من التصويب على البطاقة والأهداف المرجوة منها، ابحثوا عن المسؤول المباشر الذي يعاني المواطن بسبب ترهل العمل في إدارته، لا تهاجموا بطاقة قد تكون الأمل في المساواة بين المواطنين والحفاظ على كراماتهم!
قبلَ أن تهاجموا فكرة البطاقة، تعالوا نسأل من الذي قرَّرَ اعتمادها في ذروةِ الأزمة، تحديداً أزمة الغاز تتكرر مع كلِّ شتاء، لماذا لم نبدأ بها من الصيف حيث ينخفض الطلب؟
في الخلاصة: قيلَ يوماً عن مسرحية «في انتظار غودو» إن جماليتها تكمن بالفهم المتعدد والعميق لأحداثها، لكن بمسرحية «في انتظار رسائِل الغاز» لسنا بحاجة لهذا العمق، فهذه الأسئلة وغيرها ستبقى من دون إجابات، وستبقى هذه البطاقة بنظر المواطن السوري غبية مادام هناك من يريد أن يحجُب عنها الذكاء، ليحتكرهُ باسمه!