قضايا وآراء

الخرطرم بين لاءاتها الثلاث و«نعم» عنتيبي

| عبد المنعم علي عيسى

يشير الإعلان الإسرائيلي الذي حدّث بعد أربع وعشرين ساعة عبر وكالة «كان» الإخبارية الإسرائيلية شبه الرسمية عن اللقاء الذي جمع بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس المجلس السيادي السوداني الجنرال عبد الفتاح البرهان في عنتيبي بأوغندا، إلى أن السودان في الرؤيا الإستراتيجية الإسرائيلية لا يمثل دولة محورية تستدعي ممارسة السرية في لقاءات يمكن أن تدفع إليها تقاطعات آنية في المصالح، بل على العكس فإن تلك اللقاءات يمكن أن تستثمر سريعاً في حسابات داخلية ولا أهمية هنا تذكر لنظيرة لها يمكن أن تدفع بالطرف الآخر إلى الانكفاء انطلاقاً من إدراك صحيح بأن اندفاعة هذا الأخير احتياجية ومن الصعب له التراجع عنها على الرغم من أثمانها الباهظة داخلياً خصوصاً أن لهيب النار الداخلية لم يتبرد بعد وهو لا يزال يطل برأسه من بين الشقوق السودانية إلى اليوم.
لم يأت لقاء عنتيبي السابق الذكر في سياق مجرد، فاللقاءات السودانية الإسرائيلية قديمة وهي تمتد إلى ما قبل منتصف الخمسينيات من القرن الماضي عندما كانت المسألة المطروحة في السودان تتمحور حول الانفصال عن مصر أو الانضمام إليها، حيث سيشكل لقاء رئيس الوزراء السوداني آنذاك عبد الله خليل بغولدا مائير في أيار من العام 1956 تثبيتاً لخيار الانفصال، ومن ثم شكلت العلاقة المديدة للرئيس السابق جعفر النميري مفترق طرق في مسار العلاقات حيث ستفضي محطتها الأشهر المتمثلة بلقاء هذا الأخير مع وزير الأمن الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون في العاصمة الكينية نيروبي بوساطة من تاجر السلاح السعودي عدنان خاشقجي في أيار من العام 1983، إلى رسم الخطوط العريضة لعملية «سبأ» التي رمزت لصفقة تهريب اليهود الأثيوبيين «الفالاشا» عبر السودان، لتعود تلك العلاقة إلى حال من الفتور بانتفاء فعل الاحتياج وصولاً إلى سقوط حكم النميري العام 1985، والفتور عينه كان قد استمر بوتيرة أعلى هذه المرة مع وصول الرئيس عمر البشير ذي الخلفية الإسلامية إلى السلطة في الخرطوم العام 1989، إلا أن ذلك كله لم يؤد إلى قطع حبل السرة للقنوات القديمة تماما، فقد ظل ملف التطبيع حاضرا سرا مع الولايات المتحدة عبر قنوات أقامتها الخرطوم مع CIA وهي أضحت نشطة بشكل ملحوظ خصوصاً ما بعد أحداث أيلول 2001 في نيويورك كمحاولة لتجنب التداعيات المحتملة لتلك الأحداث على السودان بعدما كان هذا الأخير قد احتضن في سنوات سابقة كلاً من أسامة بن لادن وكارلوس أيضاً الذي كان المطلوب رقم واحد على لوائح الإرهاب في التسعينيات من القرن الماضي.
هذه السرية لم تعد كذلك مع تزايد الضغوط على السودان، بل باتت علنية ثم أضحت وسيلة استقواء بالخارج بين التيارات السياسية الطامحة للوصول إلى السلطة، وفي هذا السياق كان لقاء الصادق المهدي رئيس حزب الأمة السوداني مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز العام 2005، والمهدي نفسه هو من أعلن من مقر حزبه بأم درمان 6 شباط الجاري أن صفقة القرن أغلقت الباب أمام تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل وجعلت الأمر مستحيلاً، والأمر هنا لا يعدو أن يكون كسب نقاط في السياسة تسجل في ملعب السلطة القائمة، وإلا في أي سياق يمكن إدراج لقاء المهدي بيريز السابق الذكر؟
أشارت التجاذبات الحاصلة ما بعد انكشاف أمر اللقاء بين العسكر وقوى الحرية والتغيير إلى مؤشرات عدة أبرزها هشاشة التحالف القائم بين طرفي السلطة من جهة وكذا محاولة كل منهما تسجيل نقاط في ملعب الخصم يفضي إلى تراكم هذي الأخيرة بما يكفي لتغيير ميزان القوى القائم وصولا إلى تخلص أحدهما من الآخر، وإذا ما كانت الأخيرة، أي قوى الحرية والتغيير، تستقوي بالشارع وبتراث قومي كان قد أرسى محطة فارقة عندما استضافت خرطوم إسماعيل الأزهري قمة اللاءات الثلاث الشهيرة بعد أشهر قليلة من هزيمة حزيران 1967، فإن البرهان، ومن ورائه العسكر الذين أيدوه في خطوته تلك، يستقوي بخارج أميركي ظهر في دعوة واشنطن التي سارعت بعد ساعات من افتضاح أمر اللقاء إلى دعوته لزيارتها.
عندما أعلن وزير الإعلام في حكومة عبد الله حمدوك أن الحكومة لم تكن على علم بلقاء البرهان نتنياهو سارع الأول إلى تبرير خطوته بأنها جاءت في إطار «المصلحة العليا للسودان»، وفي تراجم هذي العبارة الأخيرة يمكن التخمين بأن تلك الخطوة قد توارت وراء ضرورات الوضع الاقتصادي الصعب، وكذا بقاء السودان على لوائح الإرهاب الأميركية، وفي هذا المنحى الأخير يمكن الفهم أن البرهان يرى أن الرئيس السابق عمر البشير كان يسير في الاتجاه الخاطئ عندما ارتأى ركوب سفن الخليج للوصول إلى الموانئ الأميركية، ولذا فقد قرر الشرب من «رأس النبع» الإسرائيلي، أما في المنحى الأول، أي الاقتصاد، فإن البرهان يبدو غير مدرك لتجارب آخرين سبقوه كانت لهم خطوات أكبر في هذا السياق، ولربما لم يكلف نفسه عناء الإجابة عن سؤال مهم هو ماذا جنت مصر السادات من مسارها الذي اختطته بدءاً من العام 1977 وصولاً إلى توقيع اتفاقيتي كامب ديفيد 1978 و1979 على الرغم من الوعود الهائلة التي كان الأخير قد تلقاها قبيل أن تطأ قدماه مطار بن غوريون في خريف العام الأول، مع الإشارة إلى أن مصر الجغرافيا والتاريخ تفوق السودان أهمية وبما لا يقاس في إطار الصراع العربي الإسرائيلي الذي كانت جذوته متقدة في تلك الأيام.
أخطر ما في الأمر هو أن الكثير من التيارات السياسية العربية، سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة، تشتق سياساتها في سياق إحداث قطيعة مع الماضي بكل ما يحتويه من تجارب أو أفكار أو إيدولوجيات تحت تسميات عديدة مثل البراغماتية أو الواقعية المسماة جديدة!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن