قضايا وآراء

الوجود الروسي.. والتحالفات الجديدة

مازن بلال :

فرض الوجود الروسي حالة غير مسبوقة داخل الأزمة السورية، فهو لا يشكل حتى اللحظة قوة عسكرية كبيرة مقارنة بما كانت تقوم به الولايات المتحدة في أي تدخل عسكري، وفي الوقت نفسه فإنه حمل ثقلاً على المستوى الإقليمي لأنه فرض شرطاً جديداً على الصراع، فأوجد فصلا جغرافيا على الأقل في التحالف الذي يغذي المجموعات المسلحة، وضمن هذا الواقع فإن العلاقات الإقليمية ظهرت ضمن مشهد مختلف، فالعملية العسكرية التي لا تزال في بدايتها أوضحت طبيعة الصراع بشكل سريع، وحركت موازين القوى السياسية نحو رؤية تبدو مختلفة نوعيا، فالترحيب المصري بالحرب الروسية على الإرهاب ربما لم يكن مفاجئا، لكنه وضع مؤشرات جديدة في شكل الشرق الأوسط القادم.
عمليا فإن تصريحات القاهرة تنسجم مع البنية السياسية التي يمكن أن تحتوي الاضطراب الإقليمي، ويبدو أن هناك قاعدة لرسم تحولات قادمة على مستوى التحالفات، على الأخص في العلاقة التي تربط القاهرة بالرياض، فالتمسك المصري بالحفاظ على مؤسسات الدولة السورية، بما فيها الرئاسة، ينطلق من اعتبارين:
– الأول هو نوعية الدولة المترافقة مع منظومة الشرق الأوسط القادم، فهناك صراع لتثبيت «الدولة المرنة» ضمن مفهوم يتناسب مع ربط دول الشرق الأوسط كـ«جغرافية وظيفية» تستوعب القوى الآسيوية الجديدة، مثل إيران، وتجعل شرق المتوسط نسيجا متبدلا باستمرار يعتمد فقط على امتصاص الأزمات.
ضمن مفهوم الدولة المرنة فإن النموذج اللبناني هو الأكثر شيوعا في الأدبيات السياسية، وهو يمثل تضخم «القوى السياسية» على حساب «قوة الدولة»، وهو شكل لا ينسجم مع ما تريده القاهرة من أجل تحقيق أمرين: محاربة الإرهاب واستيعاب الواقع الاقتصادي المستند إلى دورها الإفريقي، ورغم الفارق الكبير بين بنية الدولة السورية والمصرية، لكن كليهما قائم على القدرة في فرض توازن إقليمي وداخلي يوفر الاستقرار.
– الثاني طبيعة هيكلية الدولة ونظامها الرئاسي، فالقاهرة شهدت مرحلة صاخبة خلال عامين كان عنوانها «رئاسة الجمهورية»، وتكريس مفهوم تنحي الرئيس نتيجة الصراعات الإقليمية يبدو مرعباً، لأنه سيفتح خيارات يصعب التعامل معها في ظل صراع الحكومة المصرية مع الإسلام السياسي والتنظيمات الإرهابية المسلحة.
ويمكن فهم الموقف المصري تجاه الحدث من مفهوم التحكم بالأزمات المقبلة، واستشراف خطر فرض إرادة إقليمية أو دولية على أي نظام سياسي قادم، فموقف القاهرة يبدو حياديا تجاه العملية السياسية، لكن العمق الحقيقي هو الشرعية القائمة التي يمكن من خلالها بناء عملية سياسية، وأي انهيار داخل سورية يعني بالدرجة الأولى فرض واقع يمكن سحبه نحو مصر التي تملك الحساسية السورية نفسها تجاه مسألة السيادة.
في المقابل فإن التدخل الروسي يشكل معادلة مختلفة في مسألة السيادة، وإذا كان من المستبعد انضمام مصر إلى تحالف روسي يضم سورية وإيران، فإن العلاقات الإقليمية عموماً تجنح اليوم نحو رسم التوازن الذي يحافظ على الشرعية القائمة، ويحد من إيجاد نموذج مطلق لديمقراطيات تعتمد على «الدولة المرنة» وتهتم بالتعدد المذهبي أو الديني بدلا من «التعددية السياسية»، فالدخول الروسي لم يحقق ضربات عسكرية تستهدف داعش فقط، بل حرر أي عملية سياسية قادمة في سورية من الارتهان إلى الضغوط التي تشكلها المجموعات الإرهابية، وهو بمعنى آخر يشكل خريطة إقليمية مختلفة تحد من الأدوار للدول التي تستفيد من انتشار الاضطراب.
ربما لا تسعى روسيا لتحقيق نظام تحالفات جديدة، لكنها استطاعت فرض آلية للتعامل مع الأزمات من خلال «النموذج السوري»، وهذا الأمر بذاته يدفع نحو توازن مختلف يعيد للجغرافيا اعتبارها، بما في ذلك قدرة دمشق والقاهرة على رسم ملامح لتعاون أكثر عمقا، وفتح ممكنات نحو الانطلاق بعيداً من الارتهان للشروط الاقتصادية التي فرضها «البترودولار» في رسم صراعات تضعف الكتل التاريخية في المنطقة على حساب الأدوار الجديدة الناشئة، وهو ما تدركه موسكو أيضاً التي تعرف أن الشرق الأوسط بوابة نحو أوراسيا، وأن شرق المتوسط كان نقطة ارتكاز أساسية في التاريخ الروسي، فالصراع اليوم لا ينطلق فقط من تحريك البوارج بل أيضاً في إتاحة الفرصة لعلاقات إقليمية مختلفة ولاستعادة الأدوار على الصعيد الجيوستراتيجي، وعلى الأخص مصر التي يمكن أن تصبح العامل المرجح في شكل الشرق الأوسط القادم، ويمكن أيضا، رغم علاقتها بالكيان الإسرائيلي، كسر السكون الحالي في الموضوع الفلسطيني، فالأزمة السورية على ما يبدو أصبحت نقطة ارتكاز جديدة في معادلات المنطقة عموماً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن