ثقافة وفن

تل براك.. ظاهرة فنية وحضارية من التاريخ القديم.. تحوي الجزيرة السورية أكثر من 2000 تل أثري

| المهندس علي المبيض

قامت في سورية منذ فجر التاريخ حضارات كثيرة وسكنتها شعوب شتى ولا شك فإن كثرة الممالك التي قامت فوق الأرض السورية والغنى الكبير للمواقع التاريخية جعلا من سورية بوابة للتاريخ حيث يعتقد أن موقع سورية الإستراتيجي حفّز نشوء كثير من المدن والمراكز امتداداً من الساحل نحو الداخل وفي منطقة الجزيرة السورية بالتحديد والتي تعتبر الأغنى بتلالها الأثرية، ومن نافلة القول فإن كثافة التلال الأثرية في الجزيرة العليا إنما يعكس الأهمية التاريخية لتلك المنطقة وموقعها الإستراتيجي وتوفر الشروط الملاءمة للسكن حيث قدر الآثاريون عدد التلال الأثرية فيها بأكثر من 2000 تل ومن هذه التلال تل براك.
تل براك يقع في شمال شرق سورية بين الحسكة والقامشلي وسط سهول خصبة منتجة للحبوب والأقطان ويبعد عن مدينة الحسكة نحو 45 كم من الجهة الشرقية على الضفة الغربية لنهر جغجغ أحد روافد نهر الخابور تبلغ مساحته نحو 420000 م2 ويرتفع نحو 40 م عن السهول المحيطة به وتحيط به مجموعة من التلال الصغيرة يعود تاريخها إلى عصر أوروك حتى العصر الروماني «فترة الأوروك غطت معظم الألفية الرابعة قبل الميلاد» ويبدو أن الموقع استُوطن منذ ذلك الحين واستمر فيه الاستيطان إلى الألف الأول قبل الميلاد ويعتبر تل براك من أهم المواقع التاريخية في الألف الخامس قبل الميلاد ومن أكبر المراكز المدنية المبكرة وتعود أهميته إلى موقعه الجغرافي المهم حيث كان ممراً رئيسياً ويعتبر بوابة تتحكم بمعظم الطرق التجارية التي تصل بين جنوب بلاد الرافدين المتقدمة صناعياً وبين مرتفعات الأناضول شمالاً الغني بالمواد الطبيعية كالنحاس وكذلك صلة وصل بين نهر الفرات والبحر المتوسط غرباً والتي كانت تنتقل عبرها المواد الضرورية للصناعة في تلك الفترة، وشهد هذا التل أحداثاً مهمةً امتدت خلال حقبة طويلة من الزمن أي من الألف السادس إلى الألف الثاني قبل الميلاد وكان مقراً للملك الأكادي نارام سين الذي حصّنه وجعله منيعاً، يضم تل براك عدة سويات تاريخية حيث تتدرج الطبقات بالقدم الأعمق فالأعمق.. وهكذا حتى تصل أقدم طبقة والتي تعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد، فقد عرف التل حضارة نينوى كما شهد حضارتي حلف والعُبيد التي تتوضّع تحت طبقات حضارات الألف الثالث قبل الميلاد ومن الصعوبة الوصول إليهما بسهولة والسوية التي تعلوها تعود إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد المطابقة لعهد أور «مدينة أور هي عاصمة الدولة السومرية وتقع جنوب العراق» والطبقة العليا منه تعود إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أهمية الموقع وكان يعتقد أن جنوب بلاد الرافدين قد شهد نشوء المدن وأصول الكتابة إلا أن الألواح الفخارية والمكتشفات الأثرية في تل براك قد دحضت هذا الاعتقاد، فقد عُثر على كتابات تصويرية أقدم من عصر أوروك نفسه وبذلك تكون مدينة تل براك إحدى أقدم مدن العالم، ويشير مخطط المدينة والأبنية المشيدة في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد إلى نظام مدني مهم وإلى تطور معماري لا مثيل له سبق نشوء الكتابة نفسها، كما تشير اللقى الأثرية المكتشفة بالتل إلى نظام إداري دقيق في عصر الإمبراطورية الأكادية وبذلك يكون تل براك المركز المهم الثاني إضافة إلى تل موزان من العصر الميتاني.
خلال التنقيبات الأثرية في التل فقد تم اكتشاف عدد من المعابد من أهمها معبد العيون والذي يعود تاريخه لأواخر الألف الرابع قبل الميلاد وفيه عُثر على محتويات ولقى أثرية مهمة، من هذه المحتويات مذبح متقن الزخارف، كما عثر على مئات من الكسر الحجرية والرخامية والعديد من تماثيل تمثل أشخاصاً لم يعرض منها إلا الكتفان والرقبة والشيء الملفت للنظر أنهم كانوا ينحتون العينين بشكل بارز جداً حيث دلّــت الدراسات على استخدامهم تمائم وطقوساً دينية لها دلالات خاصة للحماية من الشر والعدو ومن أبرزها الإصابة بالعين وقد تكون نوع من التعاويذ التي اعتاد سكان التل تقديمها للمعبد وهي واحدة من المعتقدات القديمة التي كانت سائدة في هذه المنطقة من سورية لجلب الخير وإبعاد الشر لذلك سمي بمعبد العيون، إضافة لاكتشاف معبدي الشمس وشاكان وهما مشيّدان فوق مصطبة عالية مع ملحقاتها من المخازن والتي تعود للألف الثالث قبل الميلاد، كما تم اكتشاف أطلال قصرين، القصر الأول بناه الملك الأكادي نارام سين وهذا ما تبين من خلال الألواح الفخارية التي تم العثور عليها في القصر ويعود فترة بنائه للعصر الأكادي والقصر الثاني هو قصر ميتاني يعود تاريخه للقرن الخامس عشر قبل الميلاد «والعصر الميتاني هو الفترة الزمنية التي قامت فيها مملكة ميتاني أي بين القرن الخامس عشر والقرن الرابع عشر قبل الميلاد في شمال منطقة الهلال الخصيب وما بين النهرين وقد بسطت مملكة ميتاني نفوذها في أوج توسعها على كامل منطقة جنوب شرق تركيا وصولاً إلى حلب واللاذقية وحمص» كما تم اكتشاف مبنى بيضوي يحوي أفراناً كثيرةً ومستودعات لتخزين وطحن القمح وصنع الخبز وباحات سماوية وورشة عمل تعود إلى النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد وأبنية سكنية يتخللها شارع مرصوف بالكسر الفخارية وقناة من الفخار لتصريف المياه موصولة بحفرة، إضافة للعثور على خمسة رُقم تعود إلى فترة أوروك وأكاد ومجموعة من طبعات أختام أسطوانية ذات دلالات أسطورية وبعض الأواني الفخارية والمعدنية والدبابيس والسكاكين البرونزية ودمى حيوانية ومدقات حجرية وحلي وتماثيل وخرز حجري وذهبي وزجاجي وغيرها، ويُعزى وجود بعض تماثيل بازلتية إلى الممالك الآرامية حيث عثر على تمثال حجري من تلك الحقبة قرب تل براك وهناك موقعان رومانيان يقعان أسفل تل براك أحدهما على شكل قلعة والآخر قرية صغيرة.
تل بري كحت، يقع تل بري في محافظة الحسكة على الضفة الشرقية لنهر جغجغ ويبعد 55 كم شمال شرق مدينة الحسكة وعن بلدة تل براك مسافة 4 كم يرتفع عن السهول المحيطة به 32 م وهو بيضوي الشكل تبلغ مساحته الإجمالية 340000 م2 وهو نفس موقع مدينة كحت التي كانت مركزاً دينياً مهماً خلال الألف الثاني قبل الميلاد وقد ذكر اسم مدينة كحت لأول مرة في النصوص المسمارية المكتشفة في ماري وهي محاطة بخندق وأسوار من الناحية الشمالية وكان النهر يحميها من الجهة الأخرى وقد اختار الملك الآشوري تيكولتي نيتورتا 890-884 قبل الميلاد مدينة كحت لتكون مقراً له، أدت التنقيبات الأثرية في الموقع إلى اكتشاف سويات أثرية وحضارية مختلفة أقدمها يعود إلى منتصف الألف الثالث قبل الميلاد حيث ضمَّت هذه السوية معبداً جدرانه مرتفعة مكوّناً من ساحة وعدة غرف على حين توضعت فوقها سوية تعود إلى الفترة الأكادية احتوت على فرن يستعمل لصهر المعادن وشي الفخار، كما عثر على سوية تعود إلى الفترة البابلية القديمة احتوت على أبنية من اللبن وأرضيتها من اللبن المشوي، إضافة إلى على قبور ذات قباب مبنية من اللبن المشوي وهي مستطيلة الشكل احتوت على أدوات جنائزية، أما الاكتشاف الأهم فهو أجزاء من القصر الذي يعود إلى الفترة الآشورية في القرن الثالث عشر قبل الميلاد حيث عثر بداخله على رقم مسمارية ومجموعة مدافن ضمن جرار فخارية كبيرة احتوى بعضها على رفات وأدوات جنائزية وبعضها الآخر كانت فارغة حيث بينت الدراسات أنها كانت قبراً رمزياً يشبه نصب الجندي المجهول حالياً، وعثر أيضاً على قطع نقدية تعود إلى الفترة الإمبراطورية البيزنطية وعلى سوية تعود إلى فترة الحضارة العربية الإسلامية.
وفي الجهة الجنوبية من التل كشف عن بناء ضخم بلغت مساحته نحو 600 م2 مبني من اللبن المشوي ويعتقد أن هذا البناء ذو صفة إدارية مؤلف من سور ومدخل وباحة وعدة غرف إضافة إلى بئر مبني من القرميد المشوي يعود إلى القرن الثاني الميلادي.
كانت فترة الحضارة العربية الإسلامية آخر مرحلة في حياة تل بري حيث انتشرت آثارها في قمة التل المركزي وكشفت التنقيبات عن سويتين أثريتين من العهدين الأيوبي والمملوكي تعودان للقرن الثاني عشر والقرن الرابع عشر الميلادي وتتمثل آثارها في معالم معمارية وبقايا أفران لصنع الخزف والفخار، وخلال التنقيبات الأثرية التي تمت في التل تم العثور على مجموعة من الكسر الفخارية الملونة يعود تاريخها إلى فترة أوروك وعلى ختمين أسطوانيين ومجموعة كسر فخارية، كما عثر داخل مدافن الفترة الأشورية الحديثة على العديد من اللقى الأثرية منها أوانٍ فخارية وقطع حجرية منقوش عليها كتابة هيروغليفية ورقم مسمارية تعود إلى العصر الآشوري وحلي ومرآة برونزية ذات مقبض من خشب الأبنوس، ومن أهم اللقى التي عثر عليها ألواح طينية تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد كانت تستعمل في نول لصناعة الألبسة القماشية وهذا يدل على وجود ورشات لحياكة الثياب.

مستشار وزير السياحة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن