ثقافة وفن

الترجمة… مهمة محفوفة بالمخاطر والألغاز … أن تكتب كتاباً لا يشبه أن تترجم كتاباً أبداً

| هبة اللـه الغلاييني

نمر حالياً بمرحلة تاريخية للترجمة فيها أهمية تفوق أهمية البحث العلمي، ولاسيما أن مقدرة من هم خارج أسوار الجامعة على تناول المعارف الأجنبية محدودة بسبب ضعف مناهج اللغات في مدارس العالم العربي، وأنه على أساتذة الجامعات واجب أخلاقي يحتم على كل واحد منهم القيام بحصة من الترجمات المفيدة مجتمعياً، إلى جانب البحث العلمي الذي تبدو مهمته الوحيدة -في غياب المؤسسات البحثية الداعمة– مقتصرة على التقدم الوظيفي فقط. كان الأديب المصري توفيق الحكيم يقول: «المعنى الحقيقي للحضارة والبلد المتحضر هو أن توضع كل آثار الذهن وتراث الفكر في متناول الأيدي بلغة البلد».

وبطبيعتها، تنطوي الترجمة -كما يقال- على قدر من الخيانة، وإن حسنت نية المترجم، إذ يصدق عليها، مهما كانت دقيقة، المثل الإيطالي «المترجم خائن». فالمترجمون إذ يزجون بأنفسهم في غمار الترجمة، تلك المهمة المحفوفة بالألغاز، فإنهم يشتغلون على العمل نفسه في لغتين غريبتين عن الأخرى، وكأنهم يقصدون إعادة برج بابل. إلا أن مساعي المترجم، رغم حسن النيات، قد لا تكون مطابقة لما أراد المؤلف بالضرورة. فالجاحظ مثلاً، رغم أنه تشدد في تطلب الملكة الفنية للمترجم قال: «لا بد للترجمان من أن يكون بيانه في الترجمة نفسها، في وزن علمه في المعرفة نفسها، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليهما، حتى يكون فيهما سواء وغاية».
عاد فقرر: «إن الترجمان لا يؤدي أبداً ما قاله الحكيم، على خصائص معانيه، وحقائق مذهبه، ودقائق اختصاراته، وخفايا حدوده. ولا يقدر أن يوفيها حقوقها، ويؤدي الأمانة فيها، ويقوم بما يلزم الوكيل».
فالترجمة هي درس بيداغوجي فعلاً «البيداغوجيا هي علم أصول التدريس». فالمترجم يحاول: يفكر في الكلمات والجمل والمعاني، ويكتب، ويشطب، ويستبدل، ويسدد، ويقارب، ويستجمع جميع معارفه اللغوية والمنطقية، حتى يتمكن في النهاية من التقريب بين لغتين من خلال بذل قوة توحيدية هائلة لعلها تشبه -مجازاً- تلك التي يبذلها هرقل وهو يقرب بين ضفتي البحر.
ورغم ذلك فلا يأمن المترجم، لدى التعاطي مع اللغات المقارنة، الوقوع في «الفخاخ اللغوية»، التي عادة ما تشكل مصدراً خصباً للاضطراب اللغوي في عمله، فالقول الشهير يذهب إلى أن «الترجمة المبسطة هي وصفة للكارثة (simplistic translation is a recipe for disaster.
من أجل كل ذلك، كان لابد أن اختار أسلوب جورج شتاينر الذي يمثل مساهمته الأبرز في نظرية الترجمة، والذي يذهب إلى أن الترجمة تقع على أربع حركات، هي:
1- الثقة « trust: ثقة المترجم وقناعته أن في النص المختار ما يستحق التوصيل إلى جمهور جديد، يختلف عن الجمهور قارئ النص بلغته الأصلية.
2- العدوان «aggression»: وفقاً لتشاينر، يتعلق الأمر بالعدوان على إقليم ثقافي آخر، لذا فإن المترجم «يغزو، ويستخلص، ويجلب للوطن».
3- الدمج «incorporation» فعمل المترجم يقصد إلى استيعاب وتمثل النص المصدر في اللغة والثقافة الهدف ثم إدماجه في اللغة الهدف.
4- التعويض «restitution» وهو الإخلاص في الترجمة إلى حد يجعل النص الهدف أقرب ما يكون إلى النص الأصل.
وحول الأعراض الجانبية للمترجمين تقول المترجمة ملك اليمامة القاري: «تعلمك الترجمة أن تتكلم مع نفسك كثيراً، أن ترفع صوتك بالقراءة حين تعجز عن الفهم في سرك، أن ترفع صوتك أثناء الكتابة لتتهجى صياغتك، تخضع يدك لاستساغة أذنيك فتمنحهما سلطة الموافقة أو الرفض، وتبقى يدك قفلاً مفتاحه سمعك.
تعلمك الترجمة أن تدمن المكافِئات والمرادفات وتغدو مهووساً ببدائل المصطلحات. تعلمك أن المعنى في القلب دوماً، أن الحرف لا يغني من المعنى شيئاً، أن التأويل سيف مسلول على رقبة المضمون. تعلمك أن الأخبار المتناقلة كلها مترجمة، حتى وإن كانت بلغتك، فترى نشرة الأخبار ألد أعدائك، وتعتاد أن تصوغ الخبر على مزاجك؛ إذ قدرتك ليست بأقل من قدرة أولئك الذين صاغوه.
تحرمك الترجمة لذة لغتك الأم، تسرق بلاغة لغتك العربية إن كنت عربياً، فكل اللغات تصب في بحر العمل، ووحدها العربية تصب في بحور الشعر.
تعلمك الترجمة أن تمشي حسب التيار. أن تحني رأسك لتحميه. أن تكتب بأسلوب الكاتب الأصلي، تذكرك دوماً أن حدودك في كتاب غيرك هي حدود ضيف لا أكثر، وأن المعاني التي تختارها لشغفك بها -وإن حققت المعنى المراد ذاته- فهي معان غير مرغوب بها ما دامت لا تتماشى مع روح الكتاب، فإن تترجم كتاباً في التنمية البشرية مثلاً، ليس كترجمتك لرواية رومانسية، ولا كترجمة مقال عن الكتابة أو رسائل في السياسة. تعلمك الترجمة في هذا السياق أن تقتل حبيباتك من الكلمات وتستبدلها بما يليق بالسطر وحسب.
تسرق منك الترجمة متعة الاستسلام لمشاهدة الأفلام والبرامج المترجمة، حتى وإن كانت مترجمة عن لغة لا تعرفها، تجد نفسك مدققاً ومتصيداً لأخطاء المترجم الذي غفل عن وجود أمثالك من المشاهدين، تبدو لك تلك الثغرات على الشاشة وقحة وبليدة. تسرق منك الترجمة سكينة الأهل والمعارف، يدخل الجميع في سجال معاتبتك وانتقاد إهمالك لهم. تسرق منك سعادة المواعيد البسيطة المسروقة بسابق إصرار آملاً أن تمنح نفسك جَلَداً على مواصلة العمل.
تنسيك الترجمة أن تنظر في المرآة لترى اتساع الهالات السوداء تحت عينيك، أو تكاثر التجاعيد حولهما، أو تزايد عدد الشعيرات البيضاء في منبتها. تنسيك الترجمة آدميتك، وتذكرك بآليتك. لكنك بعد أن تحبس أصابعك عن حاسوبك، مكتفياً بقراءة نصك المترجم، تشعر كأنك أعطيت ما لديك، وأنك كائن يستحق الحياة.
تعلمك الترجمة أن آخر كلمة تنهي ترجمتها، هي أنقى الأنفاس التي يمكن لك أن تستنشقها، بعد أن أنهيت تبنيك لحرف غيرك.
أن تكتب كتاباً، لا يشبه أن تترجم كتاباً أبداً؛ فالأول طفل يخرج من صلبك، والثاني طفل تتبناه».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن