قضايا وآراء

كورونا يهدد بالعودة إلى «السور»

| عبد المنعم علي عيسى

من الممكن قراءة تاريخ الصين القديم باختصار على أنه تبن صارخ لمفهوم هو أقرب إلى العزلة، حيث سيرمز بناء السور العظيم إلى ذات جماعية ترى أن الانكفاء يمثل على الدوام مدعاة لإرساء الأمن والاستقرار في الداخل، ساعد في ذلك اتساع رقعة الجغرافيا الذي جاء بحجم قارة، وكذا زخم بشري كان على مر المراحل هو الأكثر اكتظاظاً في وحدة المساحة على امتداد هذا العالم، والسياقات السابقة، أي إرث العزلة وكثافة السكان، كانت قد فرضت ظهور بذور الاشتراكية التي عنت بشكلها البدائي عودة إلى المشاعية وتوزيعاً عادلاً للثروة، حيث ستدشن الصين تجاربها الاشتراكية الأولى في القرن الثاني قبل الميلاد، ولم يكن سقوط هذه الأخيرة إلا مدعاة لخوض تجارب أخرى سقطت بدورها لكنها كفلت بقاء «الخميرة» في حال نشطة أو هي قادرة على استعادة حيويتها كلما توافرت المناخات المساعدة على ذلك.
تعزى نهضة الصين تاريخياً إلى أسباب عديدة لكن أبرزها الاحتكاك بالتتار الذين لم يستطع سور الصين العظيم أن يصدهم عنها، حيث سيساعد ذلك الاحتكاك الصينيين عبر اكتساب قوة الشكيمة من هؤلاء في الخروج من حال الترهل التي كانت آخذة بالظهور في البنيان الصيني، ومنها، أي من عوامل تلك النهضة، القوة الروحية التي استمدتها الذات الجماعية من دخول البوذية التي أشاعت فلسفة التقشف المتناسبة مع كثافة سكانية بموارد محدودة، وخففت من النزعات الدينية المتطرفة التي تنمو عادة في أنسجة المجتمعات الفقيرة، إذ لطالما كان من المؤكد أن الدين لا يزدهر على أطراف الثراء لأن هذي الأخيرة تتيح للنفس البشرية تحرير نفسها من «قيود» الإيمان فاسحة المجال أمامها لخلق فلسفات تبرر لتلك النفس التنعم بملذات الحياة.
لكنها تعزى، أي النهضة الصينية، في العصر الحديث إلى استعادة بذور الاشتراكية لحيويتها من جديد بعد أن استطاعت قيادة ماوتسي تونغ جبّ تجارب الماضي بكل عثراتها، حيث سيعمد هذا الأخير بفعل رجعي يستشف رؤيته من ذلك «الجب» إلى القول بأولوية «الممارسة» على «النظرية» الأمر الذي سيضع «الماوية» لاحقاً في مواجهة مع النهج اللينيني الذي مثل إسقاطاً لفكر كارل ماركس في التجربة السوفيتية، وما يهمنا من هذه السردية السابقة هو القول بأن النهوض الصيني الراهن يمتلك مشروعية تاريخية بخصوصية فريدة لربما لا تمتلكها الكثير من تجارب النهوض العالمية الأخرى، أما طبعته الراهنة فهي تقوم أساساً على كسر حاجز العزلة وخلق فضاءات تتناسب وحجم الطموحات.
لم يهتز النظام القائم في بكين إبان مظاهرات ساحة تيان آن من عام 1988 بفعل رؤيا استباقية قادها دينغ هسياو بينغ الذي نحى بالبلاد باتجاه اقتصاد السوق حامياً إياها من لقيان المصير الذي لقيته التجربة السوفيتية على يد ميخائيل غورباتشوف، ولا اهتز ذلك النظام إبان مظاهرات هونغ كونغ 2019 بفعل رؤيا استباقية أيضاً قادها شي جينغ بينغ هذه المرة، وهي جنبت البلاد مخاطر الانجرار التي خطط لها الرئيس الأميركي دونالد ترامب وهدف من ورائها إلى فرض منازلة على العملاق الصيني في ساحات مخصصة أصلاً لصراع الأقزام، لكنه اهتز بالتأكيد بعد تناثر أخبار فيروس كورونا التي راحت تتناقلها وكالات الأخبار كما لو أن هذا الأخير هو الطاعون الذي حصد ملايين البشر في القرون الوسطى، والمؤكد أن ما ساعد على سرعة انتشار تلك الأخبار هو أن أعين العالم كلها كانت مسلطة على الصين التي كانت تنتظر تتويجها، لربما في غضون عامين لا أكثر، على عرش الاقتصاد العالمي، وتنتظر أيضاً تتويجها، في غضون عقد لا يزيد، على عرش التكنولوجيا العالمي، فيما بدا مشروع «الحزام والطريق» الناهض بقوة نحو إحياء طريق الحرير القديم وكأنه تهديد بغزو للعالم من نوع جديد يقوم على استبدال للسيف بالسلع التجارية القادرة على طرق أعتى الأبواب الموصدة في هذا العصر.
في مؤتمر دافوس الأخير كان العالم برمته يحبس أنفاسه وهو يستمع إلى خطاب الرئيس الصيني مدافعاً عن العولمة التي يفترض أنها بضاعة مدموغة بعبارة «صنع في أميركا»، وهي نفسها «السلعة» التي اختارت واشنطن أن تغزو بها العالم، كأني بالزعيم الصيني أراد منازلة الخصم عبر السلاح الذي صنعه هذا الأخير، حيث الانتصار هنا يصبح مزدوجاً لأنه من المفترض أن يكون الصانع أكثر دراية بخبايا سلاح قام هو بتصنيعه.
هل هو القدر؟ أم أن ثمة أياد تدخلت فنجحت في فرض إيقاع جديد على حركات التنين؟
قد لا تكون الإجابة الآن مهمة على أي من السؤالين السابقين، فالمؤكد هو أن كورونا قد أصاب الصين، التجربة والنجاح، في الصميم بعدما بات العالم يسعى إلى البعد عن كل ما هو صيني، وفي ذلك مقتل للطموح ومقتل للتمدد، واستعادة الصورة تحتاج إلى جهود هائلة في منازلة مع خصم لا يعترف بالحدود ولا بالدساتير أو الإيديولوجيات، وكل ما يعرف عنه أنه قد يؤدي إلى عزلة الصين من جديد والتواري وراء «سور عظيم» مختلف في طبيعته هذه المرة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن