ثقافة وفن

بندر عبد الحميد حجز لقلمه مكاناً مميزاً بين أهم نقاد السينما العرب

| سوسن صيداوي

ويحك من أيام مطوية، تذهب ومعها كُليّات لحيوات أشخاص عاشوا معنا وتركوا منها بيننا طيب الأثر، وذكراهم واجب علينا أن نبقيها مؤبدة لأجيال قادمة. غادرنا في يوم الإثنين 17 من شباط، الشاعر والناقد السينمائي والصحفي بندر عبد الحميد، تاركاً شامه ورفاقه في ذهول من هول صدمة غيابه التي احتال بها القدر ليخطف أنفاسه الأخيرة بعد أن عصر قلبه الحاضن بفيض مشاعر لكل من اقترب منه وسامره وحتى عرفه عن قرب. وفي هذا المقال سنفرد لكم قراءنا جانباً من جوانب فقيدنا الإبداعية التي برز خلالها ناقداً سينمائياً عربياً، وذا أثر فاعل في تقييم ومعرفة ما أُنتج من الأفلام السورية والعربية وحتى العالمية، في عينه المتابعة لأدق التفاصيل لما تمت صناعته في الفن السابع.

حياته السينمائية
تضج اليوم الأوساط الإعلامية بمن هو قادر على أن يكتب حتى اللانهاية من العبارات والجمل حول القصص السينمائية والأفلام والمخرجين مع أفضلية اختيار النجوم، وبذل كل ما أمكن من استخدام لأكثر التقنيات الإنتاجية حداثة، إضافة للمهرجانات والجوائز. ولكن نزق الكتابة النقدية من كل قيد أو تسلط لا يبرع به إلا قلة من رواد الفكر وثقافته، فليس سهلاً الغوص في أغوار النظريات السينمائية بسلاسة، ومن الخطأ أن يجرؤ صحفي على نشر قراءة صحفية لظاهرة سينمائية ما أو كتابة ذاتية عن فيلم، إلا بعد أن يتغذى وينهل الكثير من هذا النبع الدافق. على حين بندر عبد الحميد اكتسب خبرته هذه وتمرس بها، خلال سفره لدراسة الصحافة في هنغاريا عام 1979عندما شاهد الكثير من الأفلام المتنوعة المصادر والمستويات، بالتحاقه بأحد النوادي السينمائية مطوراً ثقافته في هذا المجال. وعندما عاد إلى دمشق انضم إلى مجلة «الحياة السينمائية» ليصبح عضواً فيها مواظباً على العمل فيها لسنوات، ومن ثم انتقل مؤسساً لسلسلة «الفن السابع» في إصداراتها التي تُعنى بنشر الكتب السينمائية النقدية، وتغطي كل نواحي الفن السينمائي وأبعاده وجمالياته وتقنياته وأبرز المخرجين والممثلين والتجارب القديمة والحديثة والسيناريوهات. حيث بلغت السلسلة نحو 160 كتاباً بين الترجمة والتأليف، أغنى المكتبة العربية بعوالم ثقافية سينمائية فريدة ورائدة.

ناقد سينمائي
عمل عبد الحميد في حقل النشر مديراً لدار المدى في دمشق طوال عشرين عاماً، وكان يشرف على اختيار الكتب العربية إضافة إلى الكتب العالمية لتترجم إلى العربية ومن ثم يتم نشرها كلها لجعل السينما والثقافة السينمائية معرفة متاحة للجميع. حتى واعتبر الكثير من أصدقاء راحلنا ومتابعيه بأن السينما والكتابة حولها كانت شغله الشاغل، بل إنها من الممكن قد سبقت الشعر، والأمر واضح في مقالاته في هذا المجال التي تؤكد جلياً سعة اطلاعه في الفن السابع مع إبراز تقاطعه مع المجالات الأخرى من أدب وشعر، حيث أصدر كتابه النقدي« مغامرة الفنّ الحديث» (2008)عن الفنّ في القرن العشرين، و«ساحرات السينما» (2019)، فارداً لنفسه مكاناً متميزاً بين أهم النقاد السينمائيين ليس في سورية وإنما في الوطن العربي، مخلصا لهذا الفن المتجدد، معتبراً أن الثقافة والفنون والسينما عموماً إبداع لا ينمو إلا في ظل الاستقرار والانفتاح على العالم كلّه من مواقف حرة ورؤية مستقبلية، ليقول متابعاً: وهذه الشروط المهمة هي التي تتحكم في الإنتاج والإبداع الفني والسينمائي، ومن المؤسف أن أغلبية الأقطار العربية لا تستطيع أن تنتج السينما أو تستقبلها بروح العصر. هذا والسينما العربية متعثرة، ولكن هذا لا يدعو إلى اليأس، فالأجيال الجديدة تحمل هموماً وأحلاماً كثيرة-بل أقول- أكثر اتساعاً من الأبواب المغلقة».
وعن شغف راحلنا نتابع بأنه أغنى الفن السابع بكتاباته التي شملت التاريخ السينمائي ورواده من مخرجين وممثلين. ولعل كتابه (ساحرات السينما… فن وحب وحرية) الصادر عام 2016 عن دار المدى يعبر عن شغفه الكبير بالسينما، وقد قدم فيه 145 نجمة سينمائية من جنسيات ومراحل مختلفة، مركزاً على السيرة الذاتية لكل نجمة وأهم أدوارها السينمائية، مع مختارات من أقوالها. في أسلوبية سلسلة جمعت بين تقديم المعلومة مع سردية جميلة في التفاصيل، ومن الأسماء التي جمعها الكتاب: كلارا بو، بولا نيغري، غريتا غاربو، ماري بيكفورد، ريتا هيوارث، مارلين مونرو، جين تيرني، أغنيس مورهيد، جون أليسون، أودري هيبورن، بوليت غودار، نورما تالماج، مورين أو سوليفان، نورما شيرر، دونا ريد، لانا تورن.
تميزت كتابات الناقد والشاعر والصحفي بندر عبد الحميد بأسلوب رشيق يحيّد فيه ولعه الشخصي بالسينما ويكتب ضمن رؤيته الموضوعية لها، ويبدو الأمر جلياً في كتابه (سينمائيون بلا حدود) الذي يفتتحه بمقدمة يتطرق فيها لموضوعات تتعلق ببدايات السينما والتحديات التي واجهها هذا الفن في مراحله المبكرة ليقول: «فحينما ولدت السينما في عام 1895 من معطف التصوير الضوئي، لم تكن تعني أكثر من بدعة معرضة للزوال، أو لعبة للتسلية، ولكنها استطاعت في مدة وجيزة أن تمتص كثيراً من الجاذبية الخاصة التي تحيط بالفنون الأخرى، وأن تؤثر وتتأثر حياة الناس، بشكل متسارع يفوق ما واكب الاختراعات الأخرى التي غيرت ملامح الحياة على الأرض». كما يسلط الكتاب الضوء على مغامرة الإنتاج في الصناعة السينمائية والسبل التي تبنتها هوليوود للخروج من أزمتها في ثلاثينيات القرن الماضي، وتناول أيضاً أعلام السينما وفنانيها، مع التطرق إلى جوانب على حيوات نجوم السينما وعن الإغراء والحرب والموت في حياة السينمائيين ومصائرهم.

وداع المُحب
رثى الصحفي والمخرج نضال قوشحة المفكر بندر عبد الحميد في كلمته الوداعية قائلاً: الأستاذ بندر قامة سينمائية كبيرة جداً، حيث بدأ الكتابة في الصحافة الفنية وعلى الخصوص السينمائية في السبعينيات، وكان مرجعية لجيل وأتشرف بأنني كنت واحداً من الأشخاص الذين نهلوا من خبرته ومعرفته، ولم أتوان يوماً بأن أطرق بابه كي أزيد معرفتي حول ما يعترضني بالحصول على معلومات نقدية وسينمائية مهمة. وبرحيله نحن نخسر قامة سينمائية كبيرة جداً في سورية، فهو –بداية- أغنى المكتبة السينمائية العربية بترجمات في اللغة الإنكليزية، وهو من مؤسسي النقد السينمائي في سورية، وهنا لابد من التوقف عند مرحلتين مهمتين في التاريخ الشخصي والمهني لبندر عبد الحميد السينمائي العربي والسوري عموماً، المحطة الأولى في سنة 1978حيث كان له شرف تأسيس سلسلة «الفن السابع» والتي هي سلسلة كتب فنية سينمائية تصدر عن المؤسسة العامة للسينما ووزارة الثقافة، وما زالت حتى الآن، وأصبح عدد الكتب الصادرة حتى اليوم تقريباً 300 كتاب لعظماء السينما في العالم والوطن العربي وسورية. على حين المحطة الثانية لعبد الحميد أنه في أواخر عام 1979صدرت مجلة «الحياة السينمائية» هذه المجلة الفصلية المحكمية التي صدر العدد منها 102 قبل أيام، وحالياً سيصدر العدد 103 و104 في عدد مزدوج، وهنا لابد من الإشارة إلى أن هذه المجلة نشرت العشرات من المقالات لسينمائيين كبار ونقاد منهم على سبيل الذكر: إبراهيم العريس، أمير العمري، كمال رمزي، سمير فريد… إلخ. وبالطبع مفكرنا بندر عبد الحميد كان أمين التحرير في «الحياة السينمائية» وسلسلة «الفن السابع».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن