ثقافة وفن

«تانغو» من الحب إلى تجارة الموت … قذائف ورصاص وخوف يحلّ محلّ الموسيقا والنغم

| ثناء خضر السالم- ت: طارق السعدوني

ضمن فعاليات مهرجان طرطوس الثقافي الثاني تم عرض مسرحية تانغو، فكرة وإخراج: ياسر دريباتي، تمثيل: نيرمين علي، رهام التزه. ديكور: نعمان عيسى. دراماتورج: أنور محمد.
ليلى وريتا هاتان الشخصيتان المتنافرتان في هذا العرض تمثلان الحياة بقطبيها: سالب موجب، وعي لاوعي. البشر في هذه الحرب وكما في أي حرب يتحولون إلى ضحايا، فإن كانت ليلى تمثل الجهل والتخلّف فإن ريتا تمثل الوعي.
هاتان الصبيتان المتناقضتان ما يجمعهما أكثر ممّــا يفرّقهما، فإن كان تفاهم الواعي مع الجاهل محالاً فإن التفاصيل المشتركة والظروف تجعل غير الممكن ممكناً، تفاصيل الألم والإحساس بالانكسار وخيبة الأمل والخذلان.
تستأجر الصبيتان غرفة أو بالأحرى خرابة كما يسميانها، ليلى تحيا على وميض أمل وريتا هربت من حياة صارت خرابة.
بديكور بسيط مؤلف من كرسيين ومسجلة ووشاحين وبعض الشموع والطاولات يأتينا العرض المسرحي تانغو، ترقص الفتاتان اللتان يعلوهما وشاحان على موسيقا التانغو، ليلى ترقص رقصة العابدة التقية والمرأة الخانعة المستكينة، وريتا ترقص رقصة التانغو، رقصة الأنثى التي تتوق إلى عودة حياة صارت خراباً، كيف لا وهي من عشقت التانغو وازداد شغفها به لمّــا أحبها جنيد بعدما أعجب برقصها، وهو أيضاً راقص التانغو والطبيب الماركسي المثقّــف، هذا المحبّ العاشق الذي تزوّج ريتا، صار شخصاً آخر، تحوّل في خضمّ هذه الحرب، وترك الطبّ ليتحوّل إلى تجارة الموت، ويفتح مكتباً لدفن الموتى. حاولت ريتا إعادته إلى الحياة إلى استماع الموسيقا ففشلت، وخاب أملها في جعله يصغي إلى مقاطع من كتب كان يحبّها، حاولت أن تصير مثله بدأت بقص الأكفان وندبت مع الندّابات ولمّا عجزت عن تغيير نفسها لأجله هربت منه إلى خرابة أفضل من الحياة معه، وليلى المتمسكة بقشور تظنها تديّناً وإيماناً تجد في عمله هذا طاعة وتقوى وإيماناً ولا تستطيع أن ترى حجم التغيير، فقد اهتدى إلى طريق الحق والإيمان بتركه الرقص وانتقاله إلى قصص الدفن وباركت له توبته.
والسؤال: ما الذي حوّل جنيد إلى شخص لا يمت له بصلة؟ على ما أعتقد هو الداخل المهزوز غير المبني على ثوابت، يميل مع الهاصر، وما أكثر أشكال هذا النموذج!
ونأتي إلى ليلى التي تفوّقت في دراستها، لم ينظر أهلها إلى كرتونات تفوّقها كما تروي لريتا وإنّما كان نظرهم مشدوداً إلى تزويجها والخلاص من همّها، فرموها في وجه أبي مؤنس أول عريس تقدّم لها لتكون زوجة ثانية، وعلمّوها كيف تتغاوى لبائع الغاز التي كانت تختبئ لمّــا تسمع صوته في طفولتها مشمئزة من عفونة رائحته، فأدّت الممثّلة رقصة إغواء الرجل بطريقة كشفت عن وجعها العميق وجرحها المتدفّق بعد خيبتها الكبيرة من أهل باعوها وهي صغيرة ورجل كذب عليها فقد أرسل لها هاتفاً مع تكاليف إنترنت، سعر هذا الهاتف يسدد لها أجرة الغرفة لعام، لأنه يحتاجها غانية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لا أكثر.
أبو مؤنس بائع الغاز صار داعية إسلامياً في ألمانيا تاريخه الملطخ بالقذارة لم يقف في وجهه، تسرد ليلى قصص تسلّيه بتعذيب القطط والعصافير، وكيف رمى زوجته وابنه ببلم في البحر حتى وصلوا ألمانيا وتمكّنوا من لمّ شمله ليصير هذا الداعية العظيم.
ريتا تحاول توعية ليلى وتنقد تمسّكها بفتاوٍ لا تمتّ إلى العقل بصلة وتقنعها بأن الصلاة وحدها لا تفيدها بلا عمل، تغيير واقعها يحتاج إلى عمل، وتوعّيها بأن أبا مؤنس لم يبعث لها فيزا في البريد كما قال لها مستغلّاً جهلها فالفيزا ترسلها السفارات، ولن يبعث لها الفيزا لاحقاً لأن القانون في ألمانيا لا يقبل تعدد الزوجات.
ألم ليلى من وجع الحقيقة جعلها تطفئ كل الشمعات التي كانت قد أوقدتها لمّا كان الأمل يبرق في داخلها.
هذا الوعي الممثّل بريتا أوجع ليلى كثيراً لكن في النهاية صوت العقل هو المنتصر.
المشهد الأخير وهو صوت القذائف والرصاص وصوت الخوف والرعب يفضّ الخلاف بين ليلى التي تنظر لريتا على أنها «رقّاصة» وليست راقصة تانغو وأنها غير جديرة بالاحترام فتعتذر لريتا لأنّها في سريرتها نظرت إليها نظرة احتقار، وكذلك ريتا تعتذر من ليلى لأنّها قاست عليها بالكلام.
وتنتهي المسرحية بمشهد مضحك مبكٍ، ليلى البائسة تعيد الاستفسار عن إمكانية سحبها إلى ألمانيا كزوجة ثانية؟!
فتضحك ريتا قائلة: عندما تصدر فتوى من الداعية أبي مؤنس تقضي بإمكانية تعدد الزوجات في ألمانيا.
مسرحية جميلة بأداء جيّد ونص جميل لا يخلو من روح الفكاهة اللاذعة وعرض يستحق المشاهدة، ولا ننسى المشهد الذي نسمع فيه صوت زمور سيارتين لا يرضى أي من صاحبي السيّارتين أن يفتح طريقاً للآخر فالشارع ضيّق، هكذا هي الحياة ناس تتعنّد وناس تتعذب وتدفع ثمن عناد غيرها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن