كيف يمكن لشخص أن يكون بسمعة مدينة؟ كيف يمكن له أن يكون صلة بين كل من تعرفه، ونصف من لا تعرفهم؟ كيف يكون رجلاً من لحم ودم، بخصال البشر الطبيعية كلها، جامعاً الجميع على حبه، واعتباره قديساً بعيداً لا يطوله انتقاد.
لو لم أعرف الشاعر بندر عبد الحميد كما المئات إن لم يكن أكثر، لأثارني الفضول لمعرفته حتى رحيلي أنا أيضاً.
التقيت أبو الطيب كغيري كثر، وأنا أحاول أن أكون مستكتباً في مجلة «الحياة السينمائية». كان فارق العمر يقارب العشرين عاماً بيننا، وكان بندر بالنسبة لي، بذات الظلال المهيبة التي تركها فيّ جيل سعيد حوارنية وسعد الله ونوس وحيدر حيدر ونذير نبعة ومحمد ملص وممدوح عدوان.
كان الاقتراب يتطلب مجهوداً مسبقاً في القراءة والتحضير، وربما واسطة شخصية تلمساً للود.
لكن بندر كغيره منهم كثر أيضاً، كان أشبه بمن يحمل قلوباً فائضة عنه، بل ليست له تماماً، تقوم بواجبها اتجاهك سريعاً، فيما هو منشغل بحب آخرين في الوقت ذاته.
لقاءات سريعة حصلت، وبعد الاستكتاب الأول، قال لي ولزميل مرافق إننا نستطيع أن نقبض أجرنا ونخبئه في خزانة ما، أو أن نحمل تلك الورقات النقدية القليلة للحّــام شارع العابد المتواضع، ليحضر لنا غداءً مشتركاً.
وهكذا صار ما نكتبه لـ«الحياة السينمائية» يذهب في هذا الاتجاه، ولكن مع مزيد من الحضور المتنوع. كان منزله المستأجر في شارع العابد، نقطة التقاء أجيال، فرق بين عناصرها الزمن، وباعدتهم السياسة، وشردتهم الحرب، لكن دون أن ينسى أحد منهم ذلك السرداب الضيق إلى يمين شارع الباكستان.
في منزل بندر الحميمي، بكى كثيرون جهاراً، وقهقه آخرون. تصاعدت حدة النقاش، وخبت، ولدت قصص حب وماتت، وكان صاحب الدار في كل هذا كبواب دار قدرية تعرف أنها محطة لا بد منها، لكل عابر في ليل دمشق.
كانت الدار دارنا، يتركنا فيها ويغيب. ننام حين نتوه، ونأكل حين نجوع، ونسترق لحظات حب مستحيلة في تلك الظروف.
كان يعشق الحب. ولكنه لم يكن رومانسياً. بدوي الفطرة في معرفته لنا كبشر. وكثيراً حينما نتحدث عن الحب، كان يذكرنا بقصة صديقه الشاعر الجائع الذي أهدته حبيبته وردة فأكلها.
دمثاً وحاراً، وبابتسامة حارة تغني عن الضحك، وعن الكلام.
الشوق لبندر تضاعف والشام على ما عليه الآن.
مررت كثيراً في سنوات الحرب الماضية من أمام ذلك الباب، ووقفت متسمراً أخشى الطرق عليه.
سمعت أنه قد هجر الدار بسبب مرض ألم به. وسمعت أن ابنه يسكنها. وسمعت أنها قد ذهبت لغيره. سمعت ولم أرغب في أن أتأكد أبداً، أن أحداً غير أبي الطيب يمكن أن يفتح ذلك الباب.
لبندر من الوصف النبيل ما يزيد على هذا المكان بكثير. وفيه من الرقي ما يكفي المدينة.
تلك بعض كلماته «في الحياة وفي الموت/ أحبك/ أنت سطوة اليقظة/ تمرد القلب/ فوضى اليوم الأبدي/ الأشياء في التبدل/ في الحياة وفي الموت/ في نزق الجنون/ وفي برهات الظلمة عند شرفة العدم/ أحبك/ وفي الشارع المقفل بالحجارة والجند/ وعلى مفترق الحيرة/ أحبك/ في الحياة وفي الموت/ في حدائق الكراهية/ وفي اليوم المريب/ وعندما يقطف البشر ورودهم المسمومة/ ويتبادلون الفؤوس والرصاص والطعنات/ أحبك».