قضايا وآراء

إدلب.. الاستحقاق الروسي

| مازن بلال

تقدم موسكو حالة من تخفيف التصعيد الدبلوماسي، رغم أن الصدام العسكري مع تركيا يظهر وشيكاً إعلامياً على الأقل، فالمساحة السياسية المتبقية بين البلدين تحكمها التعقيدات في محافظة إدلب، وإمكانية التصرف وفق قواعد اشتباك تقلل من احتمال انهيار التنسيق بينهما طوال السنوات الماضية، فالتصريحات الروسية والتركية توحي بأن المواجهة لا تزال تقف وراء مساع دبلوماسية هشة تقودها فرنسا وألمانيا.
ظهر مشهد المواجهة مع تدخل الطيران الروسي في المعارك في محيط مدينة النيرب، ولكن هذا التصرف العسكري خضع من الجانب الروسي إلى إطار ضيق يمنع دعم المجموعات المسلحة، فهو استهدف الإمدادات التركية للمسلحين، وضمن هذا الشكل فإن موسكو تركز على نقطتين:
– الأولى جعل المجموعات المسلحة مجردة من أي دعم في أي معركة قادمة، وتفويت الفرصة أمام الأتراك لفتح معركة عبر هذه الفصائل لتغيير الواقع العسكري المستجد، وهذا التصرف يبدو خطيرا لأنه يضع احتمالات مفتوحة لاحتمال التصادم المباشر مع القوات التركية، لكنه أيضاً يحد من خيارات تركيا في استخدام المسلحين ويجعل تركيا أمام استحقاق المواجهة المباشرة مع الجيش السوري.
وفق هذا السياق فإن أي معركة قادمة مهما كانت نتائجها فإن تبعاتها السياسية لن تكون مرضية لأنقرة، فالصدام بين الجيشين السوري والتركي سيلغي عملياً استناد أنقرة لمبررات سياسية في دعم مجموعات معارضة لم تعد موجودة في الواقع، فما حدث عملياً في معركة النيرب هو تحييد عسكري لتلك الفصائل يمكن أن يلغي لاحقاً شرعية اعتبارها مجموعة معارضة، والتأكيد على ضرورة إنهاء الفصائل الأخرى المصنفة إرهابية مثل «جبهة تحرير الشام».
– الأمر الثاني ترك الوساطة الدبلوماسية للطرف الأضعف، فألمانيا وفرنسا غير قادرتين على التأثير القوي في الأزمة إلا عبر روسيا، على حين لا تبدي الولايات المتحدة اهتماماً قوياً بما يحدث، فهي مستعدة للدعم من بعيد دون الدخول في التأثير القوي ضمن منطقة خطرة فيها احتمالات الإضرار بفرص الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الانتخابات القادمة.
عمليا فإن سياسة ترامب غير مهتمة أساسا بتبديل التوازن القائم حالياً أو حتى بإيجاد حلول لمسألة إدلب، وتعتبر أن هذا الموضوع سيضع روسيا ضمن مواقف إقليمية صعبة، وزيارة وزير الخارجية الأميركي إلى أنقرة لم تقدم الكثير للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فهي زيارة دراسة الموقف فقط مع إمكانية الدعم الدبلوماسي في المحافل الدولية، وتبدو الإدارة الأميركية الحالية مهتمة أكثر بانشغال روسيا بملف إدلب الذي يتيح لواشنطن إيجاد هوامش تحرك في ملفات أخرى.
إن السؤال الأوسع يرتبط بتفاهمات أستانا واتفاقات سوتشي لأنها تعبر عن حالة إقليمية مختلفة، فهل انهارت ممكنات إنشاء نظام إقليمي يستند إلى قوتين أساسيتين: تركيا وإيران، وضمن مظلة دولية ترعاها روسيا؟ ربما من السابق لأوانه البحث بشكل مفصل في هذا الموضوع، لكن المؤشرات تقودنا إلى طبيعة الظروف الموضوعية التي قادت لمثل هذا التشكيل، فروسيا استفادت بشكل واضح من طبيعة الأزمة السورية لتجميع القوى الإقليمية، وهي بالتأكيد تدرك أن التبدلات التي حدثت داخل الهيكلية السياسية في تركيا أتاحت لها تعاملا إقليميا مختلفا، خصوصاً أن الرئيس أردوغان غيًر من الصيغة السياسية التركية ومن دور الجيش المؤثر بالسياسة، وهذا التحول فتح مجالات كثيرة استفادت منها موسكو بشكل فعال، ولا تبدو تركيا اليوم أمام افتراق واضح لسياسة حزب العدالة والتنمية، فاستعادة توازنها داخل حلف الأطلسي تحتاج لحالة دولية غير متوافرة اليوم، وانكفاء تركيا إقليمياً ربما يكون الشرط الأطلسي لدخولها مجدداً في أي توازن إقليمي قادم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن