قضايا وآراء

إدلب سيمرّها الربيع هذا العام

| عبد المنعم علي عيسى

لم تفض جولات التفاوض الروسية التركية الثلاث الخاصة بالتصعيد الحاصل في إدلب والذي انضم إليه منذ منتصف كانون الثاني الماضي تصعيد مماثل في أرياف حلب مع أجزاء من المدينة، إلى خلق حالة من التقارب يمكن البناء، أو التعويل، عليها حتى في جولات قادمة يمكن أن تستولدها الأحداث التي تغذ خطاها نحو تصعيد أكبر كما يبدو، فالتباعد بين نسيجي المواقف ظل يسجل حالة من الصعب فيها لحلول الترقيع أن تكون ناجعة لستر الشقوق.
آخر جولات التفاوض التي أعلن عن فشلها كانت في موسكو يوم الثلاثاء الماضي، وبعدها كان القرار باختبار النار الذي جاء في أعقاب إيعاز تركي أكيد للفصائل المسلحة الموالية بشن هجوم على مواقع الجيش السوري في محيط مدينة النيرب يوم الخميس التالي لإعلان إخفاق جولة التفاوض الثالثة سابقة الذكر، وبشكل ما يمكن اعتبار ذلك الهجوم تجريبياً، أو هو يمثل بالون اختبار، لجس نبض موسكو تمهيداً لتنفيذ عمل عسكري واسع كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد توعد به يوم 5 شباط الجاري، إلا أن نتائج الرصد التي جاء بها «البالون» كانت من النوع الذي اقتضى فرملة سريعة، وما رصده «البالون» هو مقتل جنديين تركيين وإصابة خمسة آخرين في قميناس شرق إدلب بنيران روسية هذه المرة، فيما التقارير الصادرة بعد يومين من هذا الحدث الأخير كانت تشير إلى تفعيل منظومة إس 300 على الأراضي السورية والمؤكد هو أن بيان الجيش الصادر يوم الأحد الماضي والذي أعلن فيه عن أن الدفاعات الجوية السورية سوف تسقط أي أهداف تخترق الأجواء السورية يمثل تأكيداً لتلك التقارير، واللافت هو أن ذلك «الامتحان» كان قد تزامن مع تغريدة أطلقها حلف الناتو على موقعه قال فيها «تركيا هي كل الناتو» إلا أن الطعم لم يشكل، كما يبدو، إغراءً كافياً لـ«الحوت» التركي لكي يبتلعه، خصوصاً أن هذا الأخير كان قد نجح في الإفلات من نظير له بعد أن كان قد قضم نصفه خريف عام 2015، والسمك الناجي من حدث كهذا يطلق عليه الصيادون اسم سمكة «منكرة»، بمعنى أنه سبق لها أن تعرضت لفخ مماثل فباتت صاحبة خبرة في التعاطي مع طرق اصطياد كهذه.
تراجعت اندفاعة أردوغان ما بعد اختبار قميناس ليعلن صبيحة اليوم التالي أن سياسات بلاده تجاه إدلب سوف تتحدد ما بعد الاتصال الذي سيجريه مع نظيره الروسي مساء ذلك الإعلان، وهو الاتصال الذي لم يسفر عن تقدم ملموس فقد رصد كل من البيانين الروسي والتركي الصادرين بعد ساعات من حدوثه حالة هي أقرب إلى الخلاف منها إلى التوافق، قياساً إلى المحاور التي ركز عليها كل من البيانين سابقي الذكر، ففي الوقت الذي اعتبر فيه البيان التركي أن المحور الأهم في ذلك الاتصال هو قول أردوغان إن الحل في إدلب يكون بتطبيق كامل لاتفاق سوتشي أيلول 2018، خرج البيان الروسي ليرى في تركيز بوتين على أن الحل في إدلب، وعموم سورية، يقوم على احترام السيادة ووحدة الجغرافيا السورية المحور الأهم، وفي اللغة الدبلوماسية يمكن رصد المناخات التي سادت لقاء، أو اتصالاً، ما عبر التباين الذي يمكن تلمسه تبعاً لرؤية كل طرف من الأطراف للمحور الأهم الذي جرى التركيز عليه في ذلك اللقاء أو الاتصال.
لربما جاء الإعلان عن القمة الرباعية التي من المقرر انعقادها في اسطنبول 5 من شهر آذار المقبل والتي ستجمع أردوغان إلى نظيريه الروسي والفرنسي إضافة إلى المستشارة الألمانية، في موعد يتعدى المهلة التي حددها الأول، أي أردوغان، بنهاية شهر شباط الجاري لانسحاب الجيش السوري إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية، أقرب ما يكون إلى قارب نجاة رماه الرئيس إيمانويل ماكرون لصديقه اللدود أردوغان للتفلت من وعد قطعه، بل ولإنقاذ حياته التي قال إنه على استعداد للتضحية بها «من أجل إدلب» في 15 شباط الجاري، وهو إذ يفعل، فإن ذلك يأتي في سياق محاولة غربية برأس حربة ثلاثي قوامه محور فرنسي – ألماني- بلجيكي مدعوم أميركياً، وهي تهدف بالدرجة الأولى إلى التشكيك بجدوى مسار أستانا لحل الأزمة السورية استناداً إلى التشققات الأخيرة الحاصلة بين ضلعيه التركي والروسي، وتهدف بالدرجة الثانية إلى الالتفاف على قمة أستانا المقبلة في طهران والتي من المقرر انعقادها في شهر آذار المقبل، على الرغم من أن المستفيد الأول من ذلك المسار كان حتى الآن هم الأتراك، والخاسر الأكبر هم السوريون الذين وجدوا أنفسهم بعد ما يقرب من ثلاثة أعوام على انطلاقة ذلك المسار أمام حالة احتلال تركية لأجزاء من بلادهم عبر عمليات ثلاث هي «درع الفرات» و«غصن الزيتون» و«نبع السلام» وجميعها استمدت مظلاتها كلها من ذلك المسار، الأمر الذي بات يشكل مدعاة للقلق في صوابية التقديرات التي ابتنت كل من موسكو وطهران حساباتها عليها قبيل الولوج في هكذا مسار، ثم إلى متى يمكن الرهان على أوراق الضغط التي يملكها الطرفان في مواجهة أنقرة لليّ ذراعها الساعية من خلال حركتها التي لا تهدأ إلى تعميم الفوضى السورية من جديد انطلاقاً من إدلب هذه المرة تمهيداً لشحذ الخنجر التركي ليصبح في وضعية القادر على الاقتطاع، واللافت في هذا السياق هو تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي أطلقه في مؤتمر ميونيخ للأمن الذي انعقد منتصف شباط الجاري والذي قال فيه «إن روسيا وإيران وتركيا ليست لها أهداف واحدة في سورية» والسؤال الذي يبرز هنا هو: عند أي تلاقيات بين أطراف ذلك الثالوث حدثت ولادة أستانا إذاً؟
من الصعب الآن تخيل إقدام أردوغان على عمل عسكري واسع في إدلب على الرغم من التحشيد العسكري والإعلامي الكبيرين، فالخطوة بلغة الحسابات السياسية ستكون حماقة كبرى لا يمكن أن يندفع إليها هذا الأخير إلا إذا كان يرى نفسه في وضع مأزوم لا ضير فيه من اللجوء إلى الخيار الشمشوني القائل «علي وعلى أعدائي»، ففي النهاية لا قيمة لأي عمل عسكري إذا لم يكن بالإمكان استثماره سياسياً، أو بمعنى آخر توافر القدرة على تحويله إلى مكاسب سياسية، وبهذا المقياس الأخير فإن أردوغان إذا ما أقدم على حماقة من هذا النوع فإنه سيكون على مواعيد شتى من شأنها أن تفضي إلى مراكمة خسائر سياسية بالجملة في جعبته، قد تبدأ بتفكك لكيمياء العلاقة القائمة مع موسكو والذي لا يبدو نظام أردوغان اليوم قادراً على احتمالها لاعتبارات عديدة، وهي لا تنتهي بحقيقة فاقعة تقول إن الخسائر على الضفة الروسية لن يقابلها ربح على الضفة الأميركية بل على العكس فإن واشنطن عندها لن تتردد في شحذ سكاكينها على «الجمل» التركي الذي سيكون عندها قد طاح فارضاً على هذي الأخيرة، أي السكاكين كثرتها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن