ثقافة وفن

الحظّ والفرصة

| د.نبيل طعمة

يسود عليهما الإنصاف، الذي هو حاصل مهما امتدّ الوقت، أبدأ بهذا لأقول: إن المعوّل عليه أن الإنسان يسبك قالب حظه بيديه، ومن فكره المستجيب للنجاح أو المتمترس خلف السكون، ما يؤدي إلى الفشل، ففي يد الإنسان أن يؤسس حظه ويشيد بناءه، حيث لا يقدر أحد على نكرانه.
إن كثيراً من الأحداث في مسيرة الحياة ترجع إلى الحظ والمصادفة، كالحظوة والفوز بالفرصة وترجّل الآخرين بشكل مفاجئ، وتوافق الأحوال، وسقطات البعض، أو تأخرهم عن الركب، فلم يحدث قط أَنّ أحداً علا فجأة أو بالتسلسل أو الامتياز، إلا من جراء زلة يجترحها غيره، والمثل الصيني يقول: إن الحية لا تصبح تنيناً إلا بعد أن تبتلع حية أخرى، وإن الإنسان الجيد خليق حيثما ولد في بيئات الحياة، أن ينشئ له سمعة حسنة وذكراً طيباً ومكانة مرموقة، هذه الصفات التي لا تحضر إلا بالعمل الجيد والتمتع بالأخلاق الإنسانية والاجتماعية، مع توافر التراكم العلمي أو الفهمي لحركة مسيره، ولغته التي تنبئ عن متحدثها، فإذا كانت خادعة فإنها ستكشف، حتى وإن سارت ألف ميل، وإن كانت صادقة وصلت بأسرع من الريح، وإن سادها الانتظار فإنما تكون في حالة مراقبة سقوط أحد ما من تخصصه ليعتلي وكما أشرت مكانه أو مكانة ما، فالمناقب الظاهرة تمنح لصاحبها المدح والثناء، والحقيقة المؤكدة تكون في جوهره، لأنها وحدها تعبر آجلاً أو عاجلاً عن جوهره.بالتبصر نرى أن الحظ العجل يخلق للإنسان المغامر بجزأيه الذكر والأنثى قلقاً من خلال تداوله الفكري لأطماعه، أما الإنسان الركين فإنما الحظ آت إليه لا محاله، ويختاره عن دونه، ولو سألت أياً ما، أو ليسأل كلٌّ منا فكره، أو يجري حواراً مع ذاته، فسيعلم أن أحداً ما ساعده خفية عبر القوى الخفية، أي الحق المسهل له عبر شهوده، ليتركه في حالة تفكر مع ذاته ومع الحياة وعلانية، عبر المنصفين المخلصين للواجبات الأخلاقية إذا دفع أو ابتز أو انتهز فرصة ليست له، ومآله السقوط المؤكد ولو بعد حين.
الحظ أو أبواب السعد يمثل الصيد والصياد، فهل أجدنا الصيد، حتى وإن كان في المياه العكرة؟ وهل مسألة الحظ والفرصة تخضعان لمسألة التسيير والتخيير؟ أم إنها قضايا اجتهاد وصدق وأمانة وعلم ومعرفة ومتابعة البشر لبعضهم، بحكم قواهم المتناقضة، ومنحهم لبعضهم الحظ والفرص.
لنراجع أنفسنا سائلين إياها: هل من أحد لم تأته الفرصة، وحالفه الحظ قليلاً أو كثيراً؟ تفكروا في ذلك، وأيضاً بعلاقة الطمع والجشع البشري الذي يطور الفرصة أو ينهيها، لأن الأيام كما شهدتها تسر حيناً وتسوء أحياناً، والفرصة تحضر بين شخصين، في حالة التنافس يصنعها الباحث عنها اغتصاباً بالهيمنة أو الوساطة الداعمة على اختلاف أشكالها، أو نتاج جهد صادق يؤيده الحظ، أما فاقدها فقد أوجد لهم الفكر الديني فكرة المخلص المنصف في المستقبل، هذه الفكرة التي وجدت من أجل قليلي الحظ وفاقدي الفرص، هؤلاء الذين سكنتهم من عودة ميساي أو مشياح التوراتية، إلى عودة السيد المسيح المنتظرة، وصولاً للمهدي المنتظر، كي يبقى لديهم أمل في الحياة، وأن الإنصاف قادم لا محالة، وسكنت عقول البسطاء والفقراء ومريدي الأديان، فهي أي الفكرة جزء من المهدئ والصبر على الحياة التي يعبرونها، من دون أن يأتي أحد، ويتوارثونها منذ آلاف السنين، وفي حقيقة الأمر إنها فكرة جيدة لأولئك المنتظرين، بينما الإنصاف موجود في الدنيا، ومن دونه لأكلت البشرية بعضها، والآية الكريمة تؤكد ما نسير إليه (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)، وكثيراً ما ندعو بعضنا لانتهاز الفرصة، ونقول هذه فرصتك، تقدم ونلها من دون أن ندرك أنها فرصة شريفة أمينة، لا تؤذي الآخر، أو أن يتجاوزها من دون أن يراها، فلا يكون لها منها فوز.هلّا نتفكر في ذلك؟ فالفرصة ليست دولاب حظ، ولا الحظ دولاباً للجاهل أو للجشع، لأن متطلبات الفرصة والحظ الأمانة والإخلاص في ما يراد، واختيار الطريق السديد وصولاً للهدف المرئي من بعيد.
هل يمكن لأي كائن فهم فلسفة الحظ والمصادفة؟ مؤمناً كان أو مؤدلجاً، وتوافر الفرص أو فقدها، وأقول لا بد من مرور أي إنسان من الفرصة، فإذا التقطها أخذت به، ويكون بها، وإذا فقدها بالخطيئة أو بالتكاسل جعلته يندب حظه.
إن أخطر ما يصيب أي مجتمع يتجلى في إحساسه بأن لا أمل له في الإنصاف وانعدام فرص الأمل بالعمل على الكفاءة وتعلقه باليانصيب ودواليبه، وهذه وحدها كافية لتحويل أي مجتمع إلى فاشل وضعيف ومهزوم، ما ينشئ لديه الجريمة والتشدد الديني والانفلات، فالحياة إذا غارت بصاحبها الإنسان بعد أن يتردد في فعل عليه أن يقوم به وتملكته الحيرة، تراه ضائعاً بين الجدب والأنانية، وإذا عقد العزم على النجاح، واتخذه هدفاً، وعمل له بجد، فتحت له سبل الحياة، ليجتمع فيها الفرصة مع الحظ، إنسان محظوظ يقابله إنسان منحوس، فهل هناك أيام سعد وأيام نحس؟ يرافق الحظ الناجح حسد الفاشل، ويسير الحسد بحامله إلى الفقر والإجرام بكل أشكاله، والحظ فرصة تصيب الندرة سالبة كانت أم إيجابية، وندرتها تؤدي إلى فصل المجتمع إلى أعلى مسيطر وأدنى منتظر، والسبب انعدام مبدأ تكافؤ الفرص، وعدم وجود مبدأ العدالة الاجتماعية الذي يطرح شروطاً متساوية في إعداد بناء المجتمع للحياة العامة، التي بها تسير الدولة، من دون خلل، وتريح توجهاتها، وبها تشد أزرهم، وتكون قادرة وبقوة على إخضاع الأهواء الفردية العنصرية أو الطبقية للمصلحة العامة، لأنها اليوم وحدها صاحبة السياسات العامة والخاصة، وإذا حللنا فلسفة الحياة لوجدنا أن النبوات ظهرت وولدت وأقفلت رغم عتب البعض، الذين اعتبروها أنها لم تقفل من أجل العدالة الإنسانية.استطلعت أحوال البشر فدعت لإنصاف المظلوم، وجذبت البسطاء والفقراء، ونصحت الأغنياء بالتواضع، ومنها أنشأت في فكر الأغنياء الرحمة والتسامح، وجعلتهم يتجولون بين الناس وفي الأسواق لتحقيق العدالة الاقتصادية ولو بالحد الأدنى، وسار ذلك إلى زمن طويل، إلى أن قبضت السياسة على كل شيء، وظهر الساسة الذين حملوا عبء كل ذلك.
مؤكد أن فكرة الحظ لا تخفى على المبصرين، وأن سبلها تشبه نجوم درب التبان في السماء، الذي يظهر كرسيه لمن يراه، وبعدها يسمح بالحلول عليه، هذا لا يحصل إلا بعد وصوله إلى النجاح المنشود، الذي لا تخيب فيه سهامه، ويكون قد ظفر بمسحة من الجنون والمجون، مع كثير من الصدق والأمانة، وهذا يتطلب بصيرة نيّرة، وأفكاراً راشدة، واستشارات ناصحة، فالإنسان الذي يتعلق بأفكار غيره لا يصل إلى غايته، ويتوه بين منهجه وصوابه، والتسويق لفكرة الحظ شائع جداً بين البشرية وقديم وجودها، والفرق بينه وبين الفرصة يحتاج للاجتهاد والعلم والنخوة، لكن إن لم تسرع إليها فقدتها، وهيهات أن تعود، لأنها تطرق بابك وأسماعك، وتكون أمامك، فإن لم تبادر إليها غادرتك بكونها لا تمتلك عامل الانتظار.
القادرون على التسامح أدركوا قيمة وقوة الفرصة والحظ، لذلك نجدهم الأقدر على الرؤية ومنح المخطئين الفرص وإعادتهم إلى بناء وجودهم، فالاستماع إلى الآخرين بعقلانية يولد الفرص والحلول للخروج من المآزق والأزمات، فهل نستمر في ذلك؟ أم إننا مصرّون على إضاعة الفرص؟ ما يؤدي إلى استهلاك مجتمعاتنا، وإبقائها في حالة تخلف، والساسة مع الأئمة والتجار قادرون على تحقيق العدالة وتحويل الفرص إلى توازن اجتماعي، والحظ إلى رؤى أخلاقية، لا انتهازية فيها ولا تكبر ولا تسلط.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن