قضايا وآراء

أنقرة والأهداف الأميركية الإسرائيلية

| محمد نادر العمري

رغم أن المشهد العسكري في الشمال السوري في منطقة خفض التصعيد الرابعة، مازال يشهد المزيد من الأزمات المرتفعة، ووتيرتها تترنح بين التصعيد والتهديد بالاشتباك، إلا أن مؤشرات حصول السيناريو الأسوأ ما بين النظام التركي والجيش السوري مازالت مستبعدة، مهما تعددت وتنوعت السلوكيات العدوانية من تصريحات ودعم مفتوح للمسلحين والزج بمئات الآليات والمدرعات العسكرية بمختلف صنوفها للنظام التركي، وبالرغم من عدم حصول أي اتفاق خلال الاجتماعات الثلاثة التي جمعت مسؤولي هذا النظام مع الوفد الروسي وانتهاء المحادثة الهاتفية ما بين الرئيس الروسي مع نظيره التركي من دون الإفضاء لأي نتيجة، ودخول الأميركي والأطلسي على خط الاستمرار بتأجيج الأوضاع والاصطياد «بالمياه العكرة»، مع تعزز المؤشرات والمعطيات التي تؤكد صلابة التوجه السوري ومن خلفه روسيا نحو تطبيق سوتشي عسكرياً وبصورة أخص فتح الطريقين الدوليين إم4، إم5 والقضاء على التنظيمات الإرهابية مقابل استمرار التركي بالرهان على التصعيد الميداني وأخذ المنطقة نحو «حافة الهاوية» لتوظيف مخاطر ذلك كأداة ضغط على الروسي لوقف دعم الجيش السوري والعودة للحوار التفاوضي لتلبية مطالبه المرفوضة قطعاً والمتمثلة بإعادة عقارب الساعة للوراء عبر الانسحاب السوري لما قبل خان شيخون والمحافظة على نقاط مراقبته مقابل تعهده بعدم عودة المسلحين لهذه المناطق.
السؤال الأبرز هنا على ماذا يعتمد النظام التركي في سلوكياته وأي مقومات قوة يستند إليها في تهديداته باللجوء للقوة العسكرية معلناً بشكل لا لبس فيه رغبته في إعادة النفوذ ورسم الخرائط على مستوى المنطقة ودول حوض المتوسط لما قبل 500 عام مضت؟
فرغم أن الإدارة الأميركية والحلف الأطلسي لم يعربا عن دعمهما عسكرياً للجانب التركي، إلا أن أردوغان يستثمر واقع استمرار الخلاف الروسي الأميركي من جانب وخشية أوروبا من ارتداد الإرهاب إليها من جانب آخر، لرفع سقف تصريحاته والتوجه نحو تحقيق مطالبه بالقوة عبر الاستناد لموقف «أصدقائه» حسب وصفه في العملية العسكرية، وبغض النظر عن إمكانية حدوث ذلك من عدمه، وهل الظروف مواتية وتقدير ميزان الربح والخسارة، إلا أننا أمام حقيقة المستفيد من تصاعد وتيرة التصعيد التي تكمن في فاعلين اثنين هما الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي.
المصلحة الأميركية الإسرائيلية بحصول صدام جزئي أو كلي هي أكبر بكثير من المصلحة التركية في حصول مثل هذا السيناريو، وخاصة أن واشنطن لم تترك وسيلة باستثناء مشاركتها عسكرياً، إلا وستلجأ إليها لدفع أنقرة نحو فخ أهدافها، وما شهدته مدينة النيرب مع نهاية الأسبوع الماضي من تبادل الرسائل بالنار كان نموذجاً مصغراً من هذا التوجه، وخاصة أن هذا التصعيد وما شهدته من مشاركة مكثفة للمدفعية التركية والإشراف المخابراتي جاء بعد اتصال هاتفي بين أردوغان والرئيس الأميركي دونالد ترامب، وقيام الناتو بنشر عبارة تركيا هي الناتو على صفحته الرسمية، وبالتالي فإن واشنطن تأمل في الوصول لتحقيق عدة أهداف من سعيها نحو حصول هذا الاشتباك:
١. حدوث صدام بين الجيشين السوري والتركي وإدخال المنطقة في نفق مظلم يصب في مصلحة التوجه الأميركي سواء في استنزاف خصومه: سورية وروسيا وإيران، وحتى حليفته المتمردة تركيا لإضعافها بما يمكنه من إعادة احتوائها مجدداً، وفي الوقت ذاته تسنح له الظروف المضطربة من تنفيذ أجنداته في دعم التوجه الانفصالي على مستوى المنطقة وبصورة أخص المشروع الكردي.
٢. السعي لخلق واقع خلاف بين الروسي والتركي على خلفية توتر الأوضاع في سورية وانعكاساتها على العلاقات المتبادلة، بما يؤدي لإنهاء شهر العسل وإلغاء الصفقات بما في ذلك العسكرية مثل «أس400» والإستراتيجية مثل «السيل الجنوبي».
٣. تحقيق الهدف الأميركي في استهداف أستانا وانهياره أو إصابته بالشلل التام والعودة إلى صيغة جنيف عبر الأمم المتحدة لسهولة التأثير الأميركي بمخرجات العملية السياسية، وهذا ما عبرت عنه بوضوح مندوبة أميركا في مجلس الأمن كيلي كرافت مؤخراً في اجتماع حول تطورات إدلب بزعمها أن «منصة أستانا فشلت في تحقيق خفض التصعيد وعلى الأمم المتحدة تولي هذه المهمة»، وهذا التوجه في التصويب على أستانا لم يتوقف على الأميركي فقط، بل شارك به أيضاً عدد من دول الأطلسي بما في ذلك الفرنسي الذي وصف خارج قاعات الاجتماعات أستانا بأنه قد «مات».
4. تأخير التقدم السوري باتجاه المنطقة الشمالية الشرقية واستمرار واشنطن بعرقلة الحوار بين قسد والحكومة السورية، واستكمال إعادة انتشار وتموضع القواعد الأميركية بما يمكنها من وضع البنى التحتية لرفع مستوى استخراج النفط المسروق وتسهيل نقله.
5. دفع الناتو لتعزيز انتشار قواته وزيادة عددها في منطقة الشرق الأوسط تحت ذرائع ارتفاع وتيرة التهديدات وهو المسار الذي طالب به ترامب بعد الرد الإيراني على استشهاد الفريق قاسم سليماني في العراق وضمن ترجمة وعوده الانتخابية في سحب قواته لضمان ولاية جديدة.
ولكن في المقابل فإنه في حال نجاح الأميركي بإيقاع التركي بفخ أهدافه أو إعلان تركيا عن خطوات هي بمنزلة حرب مفتوحة، ستعتبر روسيا الاتحادية بأن ذلك تحدياً لها وأنها مستهدفة من هذا التوجه، وخاصة أن قيادة الكرملين وفي أكثر من مناسبة وتوقيت سياسيين أكدت أن الجيش الروسي استطاع حماية أمن بلاده القومي من خلال مشاركته الحرب على الإرهاب في سورية، وهذا سيدفع موسكو نحو إدخال الجيل الخامس من طائراتها الحربية إلى ميدان المعركة في سورية، فضلاً عن استخدام محور المقاومة لقدراته الصاروخية المتقدمة.
أما الكيان الإسرائيلي فيمكن تصنيفه وبشكل حتمي من أكبر المستفيدين من تصاعد التوتر والصراع وتحويله لاشتباك بين الطرفين السوري والتركي، ولاسيما مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في منتصف آذار، وبالتالي فإن رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سيتخذ هذا الصراع بالإضافة للفزاعة الإيرانية والمخاوف الأمنية لقدرات حزب الله ذريعة ووسيلة لدفع المستوطنين نحو التصويت لليمين المتطرف تحت مسمى حماية الأمن القومي الإسرائيلي من المخاطر المتنامية في المنطقة وبما يمكنه من استكمال وتسريع تنفيذ بنود «صفقة القرن»، كما أن جيش الاحتلال لن يتوانى للحظة واحدة في تصعيد عملياته العدوانية، في حال حصول اشتباك تركي سوري، على المراكز الحيوية للجيش السوري، وهذا الاشتباك سيخدم اللوبي الإسرائيلي في واشنطن للضغط على إدارة البيت الأبيض لإبقاء قواتها في المنطقة، فضلاً عن أن الاستنزاف الذي سيطول تركيا سيخدم الكيان الإسرائيلي فيما يتعلق بسباق الهيمنة على النفوذ في المنطقة وعلى ملف الغاز بالمتوسط.
بالتزامن مع ذلك فإن هذه الأجواء ستكون ملائمة أمام واشنطن لإعادة توظيف تنظيم داعش مجدداً في العراق وسورية وصولاً للجغرافية الإيرانية، فمن يلاحظ وتيرة التحذيرات المريبة والمشكوك بأمرها من المؤسسات الأميركية من خطر عودة انتشار داعش يصل لنتيجة حاجة واشنطن لتهيئة الظروف لإنتاجه مجدداً وخاصة بعد الحرج الذي تعرضت له بعد عملية «عين الأسد» وعدم القدرة على لي ذراع طهران وإخضاعها للقبول بمحادثات مشروطة، وفقدانها لمعظم أدوات تأثيرها في الملف السوري، وخروج مسار الأحداث في لبنان عن آمالها… إلخ. ومما يعزز هذا التوجه بأن وزارة الدفاع الأميركية ومراكز الدراسات التي تروج بأن التنظيم لم يتأثر بمقتل البغدادي وهو اليوم أقوى بكثير من عام 2014، عام إعلان ما يسمى الخلافة، ويضم من 14 إلى 18 ألف مقاتل ويمتلك ما يزيد على 100 مليون دولار، لم تكن الوحيدة في رفع هذه التحذيرات بل شاركتها فرنسا التي زعمت وزيرة جيوشها فلورانس بارلي بأن «التنظيم يستعيد قوته ما يحتم على الغربيين معاودة المعركة ضده، وأن التنظيم يقوى في مناطق سيطرة الحكومة السورية»، وهو الأمر الذي أقلق المبعوث الدولي لسورية غير بيدرسون، الأمر الذي يضعنا عند حقائق أبرزها التصويب الأميركي الأطلسي والأممي على الأزمة السورية لخلط الأوراق مجدداً وزيادة الدور والتأثير السياسي.
أما أوروبا التي تعاني ازدواجية التصريحات والسلوكيات، فتعتبر أكثر الحذرين من تصاعد الأوضاع وتوترها بين سورية وتركيا، وفي الوقت ذاته تخشى نتائج الانتصارات التي يحققها الجيش العربي السوري، لأنها في كلتا الحالتين ستتحول من مصدرة للإرهاب إلى هدف لعودتهم، وقد تتعرض لابتزاز تركي أكثر مما سبق، لذلك فإن فرنسا وألمانيا تسارعان ليس فقط لعقد قمة رباعية إلى جانب روسيا وتركيا، بل لتلطيف الأجواء بينهما لتقليل مؤشرات الصدام بما تحمله من انعكاسات مزلزلة جيوسياسياً ولضمان بقاء الإرهابيين في الشمال السوري أو في أفضل التقديرات الاتفاق على مصيرهم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن