نحنُ نعيش اليوم ثورةً تكنولوجيةً نختصرها بـ«العالم الرقمي». ليسَ من عبثٍ تم الزج بالرقم في هذا التوصيف، فهو لا يستند فقط لبديهية أن التقنيات الذكية تتعامَل بلغةِ الواحد والصفر، لكن كلمةَ رقمٍ بحدِّ ذاتها هي دلالة على الدقة. كذلك الأمر فإنَّ الواقعَ الذي نعيشهُ يبدو فيهِ الرقَم كحجرَ أساسٍ في تكريسِ مصطلحِ الشفافيةِ التي يجب أن تُبنى عليها أهداف الإصلاح الإداري والاقتصادي، فالاستشهاد بالرقم يجب أن يستندَ لمعطياتٍ وإحصاءات قد تحتمِل هامشِ خطأ بنسبٍ طبيعية، هذا عادي ولا ينتهك المصداقية، ما دام هناك تبريرات لكل الجداول التي أعطتنا الرقم النهائي.
خلالَ هذهِ الحرب على سورية، قرأنا وسمعنا الكثير من التصريحات التي تتحدث بالأرقام عن خسائرَ بملياراتِ الدولارات في الوزارات التي تُعتبر منجمَ ذهبٍ، أو البنى التحتية للوزارات غير المنتجة وكلّه بسبب الحرب. بالتأكيد نعلم تماماً أن للحربِ خسائر، لكن من يريد أن يتحدث بالأرقام فعليهِ أن ينشر البيانات المنطقية التي أوصلتنا لهذا الرقم، تحديداً في ظل غياب روح الثقة بين المواطن والمسؤول فقد يرى البعض هذهِ الأرقام أشبهَ بشراءِ البضاعة بطريقة «الدوكمة»، تفتقر إلى الفرز والاهتمام وصولاً لفرضيةِ مداورة الفشل والهدر وتعليقهِ على بندِ الخسائر.
ما يلفت النظر أن هذا النوع من الاستعراض بالتصريحات ليسَ مرتبطاً فقط بالسلطةِ التنفيذية، بل تعدتهُ لتصل إلى الجهات النقابية، كأن تخرجَ تصريحات تتحدث عن أن الطبيب السوري الواحد يكلِّف الدولة خمسينَ مليون ليرة سورية، هنا علينا أن نقفَ ونتمعن بهذا المبلغ الهائل، والذي يعني ببساطةٍ أن الكلفة السنوية للطالب خلال سنواتِ الدراسة الست في كليةِ الطب هي أكثر بقليل من ثمانية ملايين ليرة سورية، لتصبح الكلفة الشهرية بحدودِ سبعمئة ألف ليرة سورية، هذا المبلغ يساوي بالدولار إذا ما أخذنا السعر التفضيلي للمصرف المركزي السوري لا السعر العادي، لأننا حينها سنحصل على رقمٍ أكبر، فإن الكلفة الشهرية لطالب الطب هي ألف دولار، أي تسعمئة وخمسون يورو تقريباً.
بصراحةٍ، هذا الرقم الهائل يدفعنا لتحملِ مسؤولياتنا كمواطنينَ بُسطاء في السعي لإيجادِ مخارجَ توقفُ هذا الهدر الحكومي والمقترح هنا بسيط جداً:
في دولة كفرنسا فإن التسجيل السنوي للطالب هو بحدودِ مئتي يورو أي ستة عشر يورو في الشهر، وقد لا يزيد المصروف الشهري للطالب مع المسكن لأكثر من أربعمئة يورو، علماً أن فرنسا تُعتبر من أغلى الدول الأوربية، إذَاً تعَالوا لنرسِل كل طلاب الطب إلى دولةٍ أوربيةٍ ما لمتابعةِ دراستهم ونقفل كليات الطب في سورية بسبب هذهِ الكلفة الهائلة، أو نحولها لمراكزَ إحصاءٍ ودراساتٍ اقتصادية عسَاها تعطينا أرقاماً دقيقة يوماً ما، عندها سنوفِّر في كلِّ طالب أكثر من خمسمئة يورو! ألا يحتاج هذا الرقم- إن كان دقيقاً- التفكير بطريقةٍ مختلفة؟
في الخلاصة: قد نتفق على أنَّ هذهِ المفارقات العجائبية في التعاطي مع الرقم ليست في هذا المجال فحسب، ربما تتعداها للكثير من المجالات التي مازالت ترتبط بالعبارة الشهيرة «مازلنا الأرخص بين الدول»!
المشكلة بمثلِ مزاودات كهذه أنها لا تكتفي فقط بتقزيمِ المجهودات الحقيقية للدولة السورية ودفاعها المستميت طوال عقودٍ عن فكرةِ «حق المواطن»، إن كانَ في التعلم أو الاستشفاء أو غيرها، لكنها تتعداها لمشكلة أعمق عندما يكون التعاطي مع الرقم هو نوع من اللامبالاة بالمتلقي، هنا تبدو الكارثة أصعب تحديداً أن هناك من لا يزال غيرَ مقتنعٍ بأننا لانعيش عالمَ الرقم فحسب، لكننا نعيش العالم الرقمي، فالتصريحات لم تعُد حبيسةَ أوراق الصحف ونشرات التثقيف الحزبية!