ثقافة وفن

عبد اللـه عبد الدايم رجل التربية والفكر القومي … احتل مكانته المرموقة والسامية بين التربويين العرب

| جُمان بركات- تصوير طارق السعدوني

عُرف عبد اللـه عبد الدايم بأنه علم من أعلام الفكر القومي والتربوي العربي، وصاحب تجربة أصيلة، وصاحب فكر وقّاد يتصف بعطاء ناضج موضوعي، وقد نال مكانة مرموقة في الساحة الثقافية العربية والدولية، وتحت عنوان: «عبد اللـه عبد الدايم رجل التربية والفكر القومي» استعادت ندوة الأربعاء الشهرية من «قامات في الفكر والأدب والحياة» هذا المفكر القومي والباحث التربوي والرجل الذي ساهم في بناء سورية.

الفكر القومي
من خلال نظرة متأملة لمؤلفات وأبحاث عبد اللـه عبد الدايم نجد أن الفكر القومي لم يكن يبتعد عن فكره التربوي وكأنهما وجهان لعملة واحدة، وكلاهما فلسفة تغوص في عمق التربية الذاتية والاجتماعية للأجيال وتتفاعل في عقولها وفق منهج سليم يلبي احتياجات الحياة، وعن الفكر القومي تحدث د. حسين جمعة بالقول:
لا انفصام بين المؤلفات القومية والتربوية لأن المسألة القومية للعروبة جزءً لا يتجزأ من التربية الوطنية الثقافية الشاملة والدائمة والمنفتحة على التراث الأصيل والثقافات العريقة للأمم والشعوب. ويحدد الباحث ملامح الفكر القومي العربي ومميزاته، فهو يرى أن الإنسان ابن أمته وروحه ثقافتها وقيمها وعاداتها وتقاليدها الأصيلة، والإنسان العربي يعي تاريخه وثقافته وتراثه في صميم إدراك ذاته الجمعية الوجودية المميزة، والإدراك العلمي الموضوعي للتراث العربي الإسلامي أساس النهوض القومي بوصفه إدراكاً يواكب تقدم العلوم وتطورها وارتقاء الفنون وآدابها، وعراقة التراث العربي وانفتاحه على المنهج العلمي وعلى ثقافات الشعوب يعزز نضال الأمة العربية لتحقيق وحدتها الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية، والفكر القومي بطبيعته فكر نهضوي قادر على التكيف مع كل مستجد، وتجاوز أي قصور داخلي لأنه مرتبط بالحياة والوعي الموضوعي لليقظة العربية ما يفرض عليه العمل على شد الفجوة المعرفية مع الغرب.
لم يغفل د. عبد الدايم في مؤلفاته عن التعرض لتحديات الفكر القومي العربي التي من أخطرها التحدي الصهيوني الذي يعد تحدياً مركباً وشديد الخطورة لأنه رأس حربة للمشروع الاستعماري الغربي الأميركي الذي زرعه في قلب الأمة العربية لإعاقة مشروعها القومي، ومنع وحدتها من التحقق وفق ما عبر عنه في كتابيه «إسرائيل وهويتها الممزقة» و«نكبة فلسطين: أصولها وأسبابها وآثارها السياسية والفكرية والأدبية في الحياة العربية»، أما التحدي الثاني فهو تحدي العولمة للفكر القومي وثقافة النهضة المتطورة، فقد كشف عبد الدايم ملامح العولمة في السنة التي ظهرت فيها على يد جورج بوش الأب في كتابه «القومية العربية والنظام العالمي الجديد» الذي تنبأ فيه بموقف العولمة من محاربة الفكر القومي العربي، والتحدي الثالث كان التحدي الثقافي العلمي الإعلامي التقاني، فيرى الكاتب أن القصور الثقافي للمشروع القومي العربي قد جعل أربابه يستقون في بعض الأحيان كثيراً من أفكار الغرب ونظرياته بعيداً عن مراعاة الخصائص الاجتماعية والثقافية والتاريخية والحضارية لأمتهم، والتحدي الأخير هو التحدي التربوي فهناك قلة في الإمكانات المتوافرة للتربية في الدول العربية وقصور في مناهجها وطرائق تربية الأجيال فضلاً عن أساليب قديمة ومتخلفة لذلك تفرض الحقيقة التربوية الموضوعية على الفكر النهضوي العربي أن يواكب ما انتهى إليه العالم المتطور في قضايا التربية وربطها بالفكر القومي ومواجهة التضليل.

الفكر التربوي
أعد عبد الدايم ما يكاد يكون دليلاً تربوياً يسترشد به المعنيون بالعملة التربوية فوضح آراءه التربوية فيما يتعلق بالواقع العربي الحالي وتطلعاته المستقبلية، وعن الفكر التربوي تحدث د. عيسى الشماس:
أولى عبد الدايم مسألة التربية اهتماماً كبيراً، بوصفها المنطلق لأي تربية من حيث أسسها ووظائفها فهو يرى ضرورة الاهتمام بدراسة تاريخ الفكر التربوي بنظرة نقدية فاحصة وينبع ذلك من جانبين: الأول دراسة تطور الاتجاهات التربوية ونظمها عبر التاريخ، والثاني ضرورة التريث عند دراسة تاريخ التربية ومراجعته.
اهتم عبد الدايم بالترجمة ولم يقف عند حدودها فقط بل تبنى كثيراً من الأفكار التي يرى أنها تسهم في تطور العملية التربوية ولاسيما دور المدرسة في الحياة والعلاقة بين التربية والحرية، ويرى أن التخطيط عملية إستراتيجية يقوم بها خبراء يرغبون في التغيير والانتقال من الوضع الراهن إلى الوضع الذي يمكن تحليله والتعامل معه بإيجابية، ويعد عبد الدايم تطوير التخطيط التربوي هو المرحلة الثانية بعد تحديد السياسة التربوية، ويعرّف في كتابه بعنوان: «التخطيط التربوي» أنه النظرة الشاملة المتكاملة إلى مشكلات التربية من جوانبها كافة، وهو بالتالي عملية منظمة لرسم السياسة التربوية التعليمية بصورها كلها، ويربط هنا بين الفلسفة والتخطيط التربوي، إذ على المخطط التربوي أن يحيط بفلسفة بلده السياسية والاجتماعية ونظام التربية السائد، ويسترشد بالإحصاء، ويؤكد دور التخطيط التربوي بوصفه يقع في قلب نشاط المجتمع كله وعملية التنمية.
وفي كتاب «فلسفة التربية العربية» يعرّف عبد الدايم فلسفة التربية بأنها التطبيق العملي للنظرة الفلسفية والمنهج الفلسفي في الميدان التربوي انطلاقاً من تحديدها وتحليلها ونقدها من أجل تحقيق الاتساق والانسجام في مراحل تطبيقها ومع سائر المؤسسات المجتمعية واستخلاص ما يجب أن تكون عليه الفلسفة.
ركز عبد الدايم لمعالجة مجموعة من المشكلات في دليله التربوي وأهمها: الإنفاق على التربية أو ما يسمى تمويل التعليم، ومحو الأمية والتعليم الإلزامي، والتعليم الثانوي وتشعيبه، وعدم مرونة الأنظمة لتلبية حاجات المتعلمين، وضعف التعليم غير النظامي، واتخذ الإجراءات اللازمة لمعالجة هذه المشكلات وإيجاد الحلول المناسبة لها.

الثقافة والتراث
ينتمي عبد الدايم إلى جيل الطليعة من المثقفين العرب الذي حملوا على عاتقهم مسؤولية النهوض القومي العربي وتبعاته في مختلف ميادين الحياة مستندين إلى تراث غني وعريق، ليس فقط عبر ما أصدروه من كتب أو ما قاموا به من أنشطة ثقافية بل عبر حياتهم العملية أيضاً، وعن الثقافة والتراث قال أ. محمد طربيه: تأتي أهمية كتاب «في سبيل ثقافة عربية ذاتية» أن موضوعه الذي يوحي به العنوان هو موضوع مطروح منذ بدايات عصر النهضة العربية وانفصال الوطن العربي عن الدولة العثمانية، ولا يزال مطروحاً حتى اليوم، وما يميز الكتاب هو التركيز على رأس المال البشري، وإعطاؤه الأولية للتنمية البشرية وليس للنمو الاقتصادي أو التنمية الاقتصادية بخلاف ماهو معروف.
وتميزت أبحاث عبد الدايم بالدقة والشمول والبحث العياني والملموس بدءاً من دقة المصطلحات المستخدمة وصولاً إلى النتائج والمقترحات مروراً بالمعالجة التي تتميز بالنوعية والرصانة والموضوعية دون تعصب أعمى للتراث أو انبهار مجاني بمنجزات الثقافة المعاصرة الوافدة.
يناقش عبد الدايم مطولاً موضوع تسمية التراث، هل هو عربي أم إسلامي أم عربي- إسلامي فيختار المصطلح الأخير كما اختاره أكثر الباحثين معللاً ذلك بقوله «إننا لا نعني بكلمة إسلامي وصفاً لكلمة عربي بحيث يذهب الظن إلى أن كل التراث العربي إسلامي، بل القصد هو أن التراث تراث عربي إسلامي معاً، وأن العنصرين متآخذان مندمجان» ويؤكد أن الدولة العربية الإسلامية اقتبست الكثير من النظم وأنماط الثقافة والحياة من الأمم التي تفاعلت معها كالهند وفارس واليونان، وأن المسلمين أنفسهم قدموا تأويلات وأحكاماً جديدة أصبحت جزءاً من التراث، والمؤلف ككل المؤلفين الموضوعيين لم يكن متعصباً للتراث تعصباً أعمى أو منساقاً نحوه بدافع من عاطفة شوفينية قومية أو دينية بل هو على وعي تام وإدراك بصير بأنه ليس مشرقاً كله وليس قاتماً كله وبالتالي فهو لا يركن للتراث ركون المطمئن ويتغنى بأمجاده الغابرة بحيث تحجب عنه رؤية الواقع وضرورة النهوض به.

رحلة حياة
عبد اللـه عبد الدايم علامة علمية سورية وتربوية، وعن حياته وجهوده قال مدير الندوة د. إسماعيل مروة:
عبد الدايم حلبي المولد تنقل بين المدن السورية بحكم عمل والده القاضي الشيخ أحمد الذي تعددت أماكن عمله، وبهذا يكون قد جرب مدارس المدن السورية في مراحله التعليمية الأولى، ولهذا أهمية في حياة من سيصبح التربوي الأكثر أهمية، ومن سيصبح الوزير للتربية فقد عاين التعليم حتى اكتملت مرحلته الثانوية في مدينة حلب وللمدرسة السلطانية أهمية كبرى من حيث وجود نخبة من الطلبة المتميزين، ووجود خيرة أساتذة ذلك الزمن كما قال، والاهتمام باللغات الأجنبية حيث درسها وأتقنها، وهذه المدرسة عملت على صقل الطالب عبد اللـه عبد الدايم، تعليمه اللغات والعناية بها، وتحديد ميوله الفلسفية والتربوية.
أسندت إليه دون سعي وزارة الإعلام مرتين عام 1962 و1964، ووزارة التربية عام 1966، وهذه المرحلة التي انصب عليه فيها نقد المؤدلجين في مرحلة ما بعد الانفصال، ومرحلة حزب البعث العربي الاشتراكي، وقد قال أحد طلابه عنه على موقع الانترنت: لم يتطرق بشكل واضح لكل المناصب المهمة والوزارية التي تولاها، إذا لم يرها إلا تجربة عابرة، لا يذكرها إن لم يتم تذكيره بها، ليس لمرارتها فحسب بل لكونه يرى نفسه رجل تربية يعلو فوق التجارب، ويعمل في أسس الأمة وليس في مظاهر حركية عابرة أو انتقالية.
وهناك قضية أخرى مستخرجة من حياته تدل دلالة قاطعة على مكانة عبد الدايم، فهو دعي لخبرته إلى عدد من الدول في القاهرة وعمان وغرب إفريقية وبيروت وأوروبا عموماً وباريس والكويت وإلى مراكز الأبحاث، وفي كل مكان ترك أثراً عظيماً، تركه لأنه باحث وتربوي أصيل ومؤسس وليس لأنه كان وزيراً فالمنصب كان مرحلة انتقالية لا تضيف له بمقدار ما يخدم وطنه بل تثقل كاهله، والتخلص من المسؤولية يصبح غاية للعودة إلى الأصل.
احتل عبد اللـه عبد الدايم مكانته المرموقة والسامية بين المؤلفين العرب بإنتاجه الغني والغزير الذي استند إلى سعة اطلاع ومعرفة بكل ما يصدر باللغة العربية والأجنبية، فنشط خلال دراسته بنشر العديد من المقالات الفلسفية والأدبية في جريدة «الأديب» البيروتية. وامتلك مقدرته الخاصة في التأليف واختار التفرغ له في النهاية ليترك للمهتمين عدداً كبيراً من المؤلفات التربوية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن