ثقافة وفن

ضمائر النصب المنفصلة

| ضحى مهنا

هي غير الضمائر المعروفة في كتب النحو والصرف. سواء منها المنفصلة أم المتصلة أم المستترة. هي الضمائر التي انفصلت عن الإنسان أو هو من قتلها ورمى بها بعيداً، فبدا من دونها كائناً أجوف مفرغاً من الحب والرحمة والعدالة والاتزان. وتحوّل إلى وحش مرعب بفمه الكبير الكريه، وما عاد يستطيع أن يطبق فكّيْه العريضين بعد أن ازداد شراهة وجشعاً، يلهث من تجارة إلى أخرى مردداً «التجارة أمارة، التجارة شطارة» ونسي ما وصل إليه من مبادئ التجارة، وظهرت تجارة الحروب تتداخل فيها ضمائر النصب والاحتيال والنهب والاستغلال والانحلال الأخلاقي.
بنهمٍ محمومٍ، فهم يعرفون كيف يدور دولاب الحياة. وما يزيد الأمر مرارة أنه لا يقف عند شريحة، فالجميع آثر التجارة على كل ما عداها من أعمال في هذا الزمن الرديء، من دون أن يلتفتوا إلى أصوات الأنين الموجع، بل قالوا بوقاحة لأصحابها: «اذهبوا إلى ربكم، هو كفيلكم، فهو من خلقكم».
وبدا العاجزون أمام أصحاب ضمائر النصب في حالٍ من هلع وانهيار نفسي، فذهب بعضهم إلى الكوميديا السوداء ورأينا فيها بعض الظرافة المبكية، وسمعنا منها الشماتة أكثر من الحزن «لكأن الوطن هو من تسبّب بهذه الفوضى وإن لم يحسن إدارتها لأسباب كثيرة معروفة، فقد نسي الجميع الحرب والخناق الاقتصادي والتهديد لمن يساعد سورية ولم يسمعوا عن سرقة الأميركان لنفط سورية وهجمات الإرهابيين على محطات حمص قبل الحرب، ثم تناسوا سورية ياسمينة الشام الدافئة».
فكان هذا عذاباً آخر، تذكرتُ الآن صورة لليابانيين بعد أن زلزلت بهم الأرض زلزالها، كان كل منهم يأخذ زجاجة ماء واحدة مما وضعه أمامهم القيّمون من دون أن يكون ثمّة معتمد أو شرطي أو رقيب.
فالجميع يفكر في الجميع أثناء الكوارث الطبيعية وربما خارجها، فلا أنانية ولا استغلال أو احتكار.. هكذا يكون الشعب الحي اليقظ.
وأما بلادنا فلم تغفل عنها الكوارث وكانت مستهدفة دائماً منذ فجر التاريخ، لكن ضمائر النصب زادت من فظاعة المصاب وأوجاعه، إنها تنصب وتجر وترفع رصيدها من سرقة المبادئ والكائنات والخيرات، ولن يجد اللئيم في الخارج أفضل من تلك الضمائر النصّابة لتعينه على الدمار وخراب البلاد.
قد لا تفكر ضمائر النصب بالعدالة التي تبدو أنها تسير بخطا بطيئة لكن يستطيع كل فرد أن يكون عادلاً رحيماً، فلن يساعد الناس إلا الناس ولن يمسح دموع الوطن إلا أبناؤه، ومن المحزن أن يخجل الإنسان من وطنه ومن المحزن أكثر أن ينصب بضمير منفصل عن أي مواطن.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن