قضايا وآراء

«إذا وقعت الواقعة»

| رفعت إبراهيم البدوي

شهدت المعارك العسكرية في الشمال السوري تطوراً لافتاً تمثل بقصف روسي صاروخي ضد رتل عسكري تركي أسفر عن مقتل أكثر من 34 من نخبة الجيش التركي الأمر الذي أدى إلى شبه انتفاضة سياسية وحزبية في الداخل التركي تدعو إلى انسحاب القوات التركية رافضة الانغماس في الوحل السوري أو الدفاع عن تنظيمات متأسلمة مدرجة على لائحة الإرهاب الدولي.
اتهام وزارة الدفاع الروسية للقوات التركية بوجودها في مراكز التنظيمات الإرهابية يكشف وبوضوح عن نيات أردوغان في الشمال السوري لجهة عدم التزامه باتفاق أستانا حيث ينص الاتفاق بوجوب إبقاء الجيش التركي ضمن مراكز المراقبة التركية وليس خارجها وهنا يبرز السؤال عن حقيقة مهمة الجيش التركي خارج نقاط المراقبة المنصوص عليها في اتفاق أستانا وما سبب وجوده ضمن مراكز التنظيمات الإرهابية العاملة على الأرض السورية؟
بات واضحاً أن تركيا أردوغان لا تسعى إلى تنفيذ أي من الاتفاقات المبرمة لأن أهداف أردوغان التوسعية تنطلق من خلفية إيديولوجية طامحة إلى إعادة أمجاد السلطنة العثمانية تتطابق إلى حد التوءمة مع أهداف العدو الإسرائيلي التوسعية المتمثلة بسياسات بنيامين.
إن الأهداف التوسعية بين نتنياهو وأردوغان باتت واضحة ومتطابقة لجهة احتلال الأرض العربية السورية الأمر الذي يكشف عن السبب الحقيقي لوجود الجيش التركي داخل الأرض السورية وعن سبب تزامن الغارات الإسرائيلية المتكررة على سورية مع تحرك الجيش التركي.
ما يحصل في الشمال السوري ليس عملاً عسكرياً عابراً لأن الأحداث الجارية في الميدان قد تعيد رسم خرائط وأقاليم تحدّد مستقبل القوى ليس في سورية وحسب بل وعلى امتداد المنطقة برمتها.
ربما البعض يصف هذا الكلام بالمبالغة بيد أن الساعات الأخيرة ولغاية كتابة هذه السطور سادت مواقف تركية لا تخلو من لغة التحدي لروسيا ترجمها رجب أردوغان تؤكد وصفنا للوضع القائم ذلك أن أردوغان وفي جلسة سرية لقيادات حزبه المسمى بالعدالة والتنمية، أماط خلالها اللثام عن الأسباب الحقيقية لوجوده العسكري في سورية والذي ينطوي على أطماع أردوغانية توسعية قائمة على أسس تصحيح خطأ تاريخي عمره 100 عام وكان يعني استعادة أراضي السلطنة العثمانية، وأضاف أمام أعضاء القيادة في حزبه أن تركيا لا تعترف بسورية وبأن مدن حماة وحمص والحسكة وحلب، التي وصفها بالعزيزة، والموصل في العراق، وصولاً إلى مصراطة وطرابلس الغرب في ليبيا، ومصر والحجاز وبيروت وحتى جزيرة القرم، لم تسلم من الانضمام إلى أحلامه العثمانية معتبراً القرم وسكانها ضمن المساحة الحقيقية لتركيا.
بيد أن اللافت في كلام أردوغان أنه تناسى استعادة أمجاد السلطنة العثمانية على مدينة القدس ولم يبد أي نية لتحريرها من الاحتلال الإسرائيلي كما أنه لم يأت على ضرورة استعادة فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي.
أردوغان اعتبر يوم السبت الماضي أن بقاء قواته في الشمال السوري بأكمله أمر ضروري للأمن القومي لتركيا فيما لا يعتبر أردوغان إيواء وتسليح وتمويل عشرات الآلاف من الفصائل الإرهابية المسلحة المدرجة على لائحة الإرهاب الدولي تشكل أي خطر على الأمن القومي التركي تماماً كما يعتبر نتنياهو استمرار احتلاله للجولان السوري وإيواء ومساندة الإرهابيين ضرورة لضمان أمن العدو الإسرائيلي الأمر الذي يضع روسيا بوتين في مواجهة مشروع إسرائيلي تركي مشترك وموحد النيات بقيادة أردوغان نفسه، وهذا ما يفسر تصريح مسؤول عسكري في وزارة الدفاع الإسرائيلية حين قال: نحن على استعداد لتقديم المساعدة العسكرية لأردوغان وفي حال طلبها لن نقف مكتوفي الأيدي أمام ما يحصل.
على صعيد الداخل التركي فإن العشرات من الشخصيات التركية الوازنة في المعارضة ألقت باللائمة على أردوغان محملة إياه المسؤولية عن مقتل ما لا يقل عن 34 عنصراً من نخبة الجيش التركي كما دعت إلى انعقاد البرلمان التركي لمناقشة الجدوى من وجود الجيش التركي في سورية.
الدعوة لانعقاد البرلمان التركي جاءت على لسان فائق أوزتراق نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو، وذلك لبحث تداعيات ما حصل ولتجنيب الجيش التركي المزيد من الخسائر.
وزير الدفاع التركي خلوصي أكار كان أكثر وضوحاً ليلة الخميس الماضي، عندما تحدَّث إلى قناة «سي إن إن» التركية، وأعلن عن النيات التركية التي يترجمها الجيش عملياً منذ أن سمح له بوتين بدخول جرابلس في شهر آب من عام 2016، وبعد ذلك إلى عفرين، ثم شرق الفرات.
خلوصي أكار وفي ردّه على سؤال مباشر حول الموعد الذي ستخرج فيه تركيا من سورية قال: «سنخرج بعد إعداد الدستور الجديد وإقراره، وإجراء انتخابات نزيهة وحرة، وتشكيل حكومة تمثّل الجميع، وإقامة دولة ديمقراطية يأخذ كلٌّ مكانه فيها، ونحن أيضاً سنأخذ مكاننا هناك».
الأميرال المتقاعد توركار أرتورك، اتهم أردوغان صراحة بالعمل لاحتلال الشمال السوري وإقامة كيان انفصالي أو حكم ذاتي إخواني في المنطقة وأضاف: «لهذا السبب أردوغان يتضامن ويؤوي ويسلح المسلحين الإسلاميين في إدلب».
ومما قاله أرتورك: إن الوزير خلوصي أكار يعكس، من خلال أقواله، «الرؤية العقائدية الخطيرة للرئيس أردوغان الخاصَّة بسورية»، ويبدو أنه لن يتراجع عنها ما دام يترجم نياته بإرسال نصف الجيش التركي إلى إدلب وشرق الفرات وغربه، وكأن الشمال السوري جزء من تركيا.
المفاجأة كانت إرسال الجيش التركي العديد من الطائرات المسيّرة التي قصفت الكثير من مواقع الجيش السوري على جبهتي حلب وإدلب، حيث استشهد عدد من الضباط السوريين من أصحاب الرتب العالية ومعهم العديد من عناصر حزب اللـه والحرس الثوري الإيراني، الأمر الذي اعتبر غض طرف روسي بالسماح للطائرات المسيّرة التركية بشن غارات على القوات السورية والحلفاء ما يفسر نية روسية بعودة الحوار بين موسكو وأنقرة من دون أن يمنع ذلك أردوغان من مهاجمة بوتين شخصياً وفي تحد واضح لبوتين متوجهاً إليه بالقول: ليكن لك ما تريد من قواعد في سورية ولكن أنا لن أخرج من هناك إلا إذا طلب مني الشعب السوري ذلك.
تتحدث المعلومات عن سلم روسي مؤقت وضع لأردوغان نزولاً عند رغبة الأوروبيين يضمن له نزولاً آمناً من أعلى الشجرة مقابل التزامه بتنفيذ مقررات أستانا وسوتشي بعد اكتفاء أردوغان بما حصل واعتباره رداً بتغطية من بوتين وتجيير نتائجه في الداخل التركي ليتباهى بأنه انتقم لقتلى الجيش التركي كما أنه نجح في إقناع أو إجبار بوتين على لقائه في القمة الرباعية مع ميركل وماكرون في إسطنبول.
من المتوقع وفق المعلومات، العودة إلى مبدأ تسيير دوريات تركية روسية مشتركة في المناطق التي يطالب أردوغان بانسحاب الجيش السوري منها، مؤكداً ضرورة إعلان إدلب منطقة آمنة.
وفي حال حصول ذلك فسوف يعلن أردوغان نفسه منتصراً ليتنفس الصعداء في مواجهة خصومه في الداخل بعد أن حمّلوه مسؤولية مقتل الجنود الأتراك وتوريط تركيا في مزيد من المخاطر داخلياً وخارجياً.
بيد أن القرار الروسي واضح وهو الاتجاه إلى حسم مسألة وجود الإرهاب في محافظة إدلب بالكامل إما بالاتفاق مع تركيا وإما بالتدمير الممنهج لقواعد الإرهاب هناك.
ومع الاعتراف بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا ينوي إسقاط أردوغان في الداخل التركي وإنما يسعى لإضعافه وإنهاكه إلى أبعد الحدود، فهو، أي بوتين، يتعامل مع أردوغان تجاه سورية بصورة مطابقة لتعامله مع نتنياهو، فكلاهما يحتلان أراض سورية مع وجود روسيا العسكري الحليف الإستراتيجي لسورية.
بعد صدور بيان المركز الاستشاري الإيراني في سورية وتضمينه تنويهاً بالامتناع عن استهداف القوات التركية في سورية التزاماً منها باتفاق أستانا على الرغم من وقوع القواعد التركية تحت مرمى نيران القوات الحليفة للجيش العربي السوري، أضحى أردوغان أمام خيارين لا ثالث لهما فإما أن يمتشق السلم الروسي والبدء بعملية النزول بشكل آمن، وإما أن لا أمن لوجوده العسكري في سورية، وفي حال اعتمد أردوغان الخيار الثاني، فلن يجد مفراً من استقبال المزيد من نعوش قتلى القوات التركية لتترافق مع انتفاضة داخلية، وقتها لن يعود بوسع أردوغان سوى قراءة سورة الواقعة، وحينها يدرك بأن سورية هي من أصحاب اليمين، وأما أردوغان فسيجد نفسه من أصحاب الشمال.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن