ثقافة وفن

قمر كيلاني.. ودمشق مشغوفة بها ومهوى القلب وأول رشفة ماء

| أيمن الحسن

ذات صباح من فضَّة كانت دمشق مدينة للثقافة العربيَّة عامَ ألفين وثمانية، وكانت علاقة أديبتنا بدمشق علاقة الفراشة بالنور حين تبصره تركض إليه، لتعانقه وتملأ روحها به.
يُذكر أنه أطلق عليها لقب «ياسمينة دمشق» لاقترانها بمدينتها المشهورة بالياسمين، لذلك أصبحت دمشق روح الروح، وقلب القلب، فيما كتبته قمر كيلاني خلال ذلك العام، وهي تتحدَّث عن دمشق العابقة بالعطر والزهر على مدى العمر، والراسخة في القدم إذ إن أقدام أبي البشر، آدم عليه السلام، تركت آثارها على جبل قاسيون، وأحد كهوفه يحتوي على رأس ابنه هابيل، الَّذي قتله أخوه.

ويقال: إن حواء عطَّرت ربا دمشق وبساتينها، كيف لا؟ وهي الَّتي راحت تبحث عن آدمِها ليلاً ونهاراً، على حين يبحث هو في النهار، وينام ليله من تعب المسير، حتَّى إذا ما كانت في بستان، ويبدو أنه من بساتين الغوطة الغناء، فرأته قادماً نحوها جلست على الأرض فنبت العشب من خلال ثوبها. وإذ أقبل نحوها فرحاً متهلّلاً، يقول:
– جميل أنني وجدتك، لقد كنت أبحث طوال النهار عنك.
فردَّت في سرِّها: «تبحث في النهار، وأنا ألوب عليك ليل نهار!».
ثمَّ رفعت صوتها قائلة:
– أمَّا أنا فلم أبرح مكاني.
دمشق مهبط المسيح المُنتظَر الَّذي سوف ينزل لمقاتلة المسيح الدجَّال على مئذنة العروس في الجامع الأمويِّ، الَّذي كان معبداً قديماً، وفيه رأس النبيِّ يحيى، أو يوحنَّا المعمدان، وهو من عمَّد السيَّد المسيح في نهر الشريعة بين الجولان وفلسطين، ويسمُّونه نهر الأردن.
دمشق الَّتي وصل الشابُّ النورانيُّ إلى طرفها الجنوبيِّ حيث منطقة القدم، وموقع قدمه الشريفة، مازال محفوراً هناك.
– ولكن لماذا لم يدخل إلى مدينة دمشق؟
بعض المؤرخين يزعم:
– حتَّى لا يُفتَن بها، وهو صاحب الرسالة الموعودة غداً.
والوقائع تقول:
– إن الراهب بحيرا بعدما شاهده قال لعمَّه: «ارجع بابن أخيك إلى مكَّة، فإن له شأناً عظيماً.
فعاد أبو طالب بالقافلة على الفور.
دمشق الّتي انطلقت منها جيوش الفاتحين إلى جهات الأرض ومازالت الأندلس بمدنها العامرة: طليطلة، وإشبيلية، وغرناطة… تشهد على ذلك المجد التليد.
تقول قمر:
– أسطورة هي دمشق، وأنا بها دائماً مشغوفة وفخورة، هي مهوى قلبي، ومهد رأسي، وأوَّل رشفة ماء روتني، وتنشقت أول نسمة هواء من رياحينها.
ثمَّ تهمس في ابتهاج:
– إنها مليكتي الَّتي شهدت طفولتي، ويفاعتي، وشبابي، وكهولتي، بكلِّ الحبِّ والاشتياق.
كتبت عن دمشق في قصصها القصيرة، وهي ستُّ مجموعات، وفي رواياتها السبع، وأبحاثها المتعدِّدة، ومقالاتها الكثيرة، ما نبع من قلبها بملء الحبِّ، والاحترام، والتقدير لمدينة هي على مدى التاريخ في عناية العليِّ القدير مؤكِّدة أن دمشق عاصمة الثقافة عامَّة، وليس العربيَّة فحسب: «هي عاصمة ثقافة أبديَّة».
على مدار عام كامل كتبت قمر كيلاني عن دمشق بحروف من براعم زهر الياسمين، تفوح عطراً أخَّاذاً، يستهوي قلوب القراء على مختلف مشاربهم في كلِّ أنحاء العالم، ومن عناوينها:
أمثال وأقوال من دمشق/مبدعون ومبدعات/خصوصيَّات دمشقيَّة/دمشق: نساء وأزياء/دمشق أضواء وظلال/دمشق وما خفي من ألطاف/وميض برق من دمشق/دمشق.. وأنا.
الشام وهل أعلى منها مقام؟
في زاويتها الأسبوعيَّة بصحيفة «تشرين» وصفت كاتبتنا البيت الشاميَّ بهندسته المدهشة، ومطبخه العامر بالمؤن، ولا تنسى النمليَّة، وقد كانت في البدء تُحفَر في الجدار، ثمَّ صارت خشبيَّة متنقِّلة.
لقد دوَّنت سفراً خالداً في وثائقه عن أبواب دمشق، وأزيائها، وعمرانها، ومرافقها العامَّة مثل محطة الحجاز للسكك الحديديَّة، فها هي تصف أسواق دمشق، وهي عصب المدينة، وقلبها النابض بالحياة، وتتوقَّف عند المسكيَّة الَّتي هي سوق للكتب، تضمُّ المكتبات الكثيرة ولكن لماذا سمَّيت المسكيَّة؟
ألأنَّهم يبيعون مع الكتب زجاجات العطر المتنوِّع، وأشهرها أيام ذاك المسك، هذا العطر النادر؟ وقد يكون بسبب أنَّك حين تمرُّ من ذلك السوق، وأنت تنظر إلى الكتب المنثورة على الواجهات، يأتي يافع، في يده زجاجة عطر صغيرة، وإذ تفتح يدك يمشي على كفِّك بزجاجته الَّتي تطرح المسك العابق بالرائحة النفَّاذة، ما يجعل جوَّ المكان يفوح بالمسك، فسمِّيت المسكيَّة.
وتتحدَّث كاتبتنا الكبيرة عن أيقونة الفنِّ فيروز، وأغانيها المميَّزة عن دمشق، فتذكر:
– أحبُّ دمشق هواها الأرق.
وتعلق قرابتهما:
– ثلج حرمون غذانا معاً.
بل إن السيِّدة فيروز تعرض على زوَّار بيتها في واجهة زجاجيَّة ثوباً دمشقيّاً، ارتدته في إحدى مسرحياتها الشهيرة، وتقول قمر:
– حين شاهدته شعرت بأن أمِّي احتفظت لي بثوب عريق، يحمل عبق الماضي، وزهوته، كي تهديني إياه يومَ زفافي.
ختاماً: عنونت كاتبتنا القديرة زاويتها الأخيرة: أنا ودمشق، فتعمَّدت أن أحذف هذه الواو المحشورة حشراً لتصبح العبارة: «أنا دمشق» وتكون قمر كيلاني أحد أقمار مدينة دمشق بالفعل في عامها الَّذي شمخت فيه عاصمة أبديَّة للثقافة عامَ ألفين وثمانية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن