ثقافة وفن

رحيل باحث التاريخ بعد أن عاش أجواء الدنيا كلّها … سهيل زكّار شيخ المؤرخين تعمّق بأسرار وبحث بحقائق وتواريخ موغلة في القدم

| سوسن صيداوي

غزارة إنتاجية عالية مشحونة بشعلة من الطموح الوقاد، أضاءت لكل من يسعى لنور المعرفة، علماً وآفاقاً لا محدودة في الطرح، غادرنا شيخ المؤرخين السوريين والعرب على حدّ سواء تاركاً لنا نتاجاً فكرياً لأعمال تنوعت ما بين تاريخ العرب والإسلام من حيث الموضوع، وما بين التحقيق والترجمة والتأليف في الأسلوب، ومُغنياً مكتبتنا العربية بأكثر من 350 مجلداً.
سهيل زكّار ودّع سوريته وطنه الكبير الذي ينتمي إليه حباً لا طائفة، ورحل بعد أن أثار خلافات في وجهات النظر مع المفكرين العرب، ببحوثه وأسلوبه القائم على الوثائقية والعلمية في مسيرة عطاء امتدت إلى ستة عقود، سبر خلالها أغوار وأسرار معتقداتنا الدينية، ولكنه رغم الاختلاف الفكري حاز على كل تقدير واحترام لصدق انتماءاته الفكرية والوطنية، ولذكراه التي ستبقى محفورة في الوجدان السوري نقدم لكم محطات من حواراته وإضاءات على بعض من سيرته الذاتية التي لا يمكن أن تُختصر ببضع سطور.

في اختيار المادة والموضوع
عن اختياره للمادة التي يرغب بترجمتها واختياره للموضوع، وتعامله مع دور النشر لفت راحلنا بحوار قديم بأنه يقيم دائماً مكاناً لرغبات وميول المترجم، ولديه حب وشغف كبيران بالديانات والمذاهب، حتى إنه صرح خلال حواره ذاته بأنه يفقه باللاهوت المسيحي مثل أحسن مختص في اللاهوت والتاريخ اليهودي، ومعرفته العميقة بأسرار المذاهب الإسلامية، ليتابع: «وثمة مسألة ثانية، أنت عندما تترجم كتاباً تريد ناشراً.. والناشر أحياناً يقول لك هذا العنوان لا يتماشى معي، أنا أرغب بالعناوين كذا وكذا. وأنت ككاتب لا بد لك أن تتجاوب وهذا موجود في كل أرجاء الدنيا. إضافة إلى ذلك أن العالم منذ تسعينات القرن الماضي وحتى الآن. والعالم كله، شغله الشاغل هو تاريخ الديانات والمشاكل الدينية، في أميركا يومياً تنزل أمواج من الكتب المهتمة في الدراسات الدينية.. وأنا أتابع، وهذا العصر هو عصر الديانات!.
ما أريد قوله كل الدنيا الآن مثارة بالأبحاث والعقائد الدينية. وما سمعناه من مشكلة الدنمارك (الصور المسيئة للرسول) يعتبر جزءاً من الجو العام في العالم كله، لذلك أنا كباحث في التاريخ لابد أن أعيش في أجواء الدنيا، كل هذا يجتمع مع بعضه ويؤدي إلى نشر وترجمة كتب.
إن تعاملي مع اليهودية -التي ترجمت حولها كثيراً- هو تعامل علمي؛ لكن أنا عدو للصهيونية».

في القضية الفلسطينية

إبداعات د.سهيل زكّار كانت تبثّ رسائل تساهم في خدمة أمته وتراثها الإنساني، فقد كره الصهيونية والطائفية بقوله: «أنا لستُ طائفياً»، وكانت القضية الفلسطينية قضيته الأولى، وقد قال مرة في إحدى مقابلاته عن علاقته بالقائد الراحل حافظ الأسد: «لم أجد رجلاً في فلسطين ولا في دول العرب والإسلام جعل الصراع العربي–الإسرائيلي هاجسه إلا القائد الخالد حافظ الأسد»، ووصفه بالرجل الأول بالصراع العربي–الإسرائيلي.
ضاع حلم زكّار بأن تكون مكتبته الضخمة مركز بحث عن القضية الفلسطينية بعد أن تعرضت لتخريب الإرهابيين وحُرق جزء كبير منها في الغوطة، و من شدة انتمائه لسوريته رفض محاولة استقطابه أو تجنيده وكان قراره البقاء في بلده لخدمة قضايا وطنه وأمته، ليصبح جزءاً من الذاكرة السورية.

عن تدقيق المسلسلات التاريخية
في هذا الإطار وعن نظرة الباحث سهيل زكار إلى الأعمال التلفزيونية السورية التي تقوم بإعادة سرد التاريخ درامياً، وخصوصاً أن لراحلنا تجارب في مراجعة مسلسلات منها: فارس بني مروان، وهارون الرشيد، والبحث عن صلاح الدين. قال: «أجل، أنا أسهمت في بعض الأعمال وأشرفت عليها وحاولت إلى أبعد الحدود أن أكون بدقة النص، ودقة الواقعة؛ إنما هناك كثير من المسلسلات يعطى الإشراف العلمي إلى غير المختصين، وبالتالي يكون هنالك خيال، يؤدي إلى أن تكون الأعمال غير كاملة».

عن الانتماء الطائفي والوطني
قالها بصريح العبارة: «أنا لا أحترم إنساناً في القرن الحادي والعشرين يحمل هوية الانتماء لوطن، وهو لا يزال مخلصاً في الحقيقة للطائفة وليس مخلصاً للوطن، أنا أزدري هذا النوع من الناس ولا أقيم لهم وزناً».
وعن هذه العقلية التي تسيطر على الأدمغة في شرقنا العربي تابع: «في الماضي عندما كتبت كتاب (مئة أوائل) وتلقيت رسائل تقول: لماذا تكتب عن عائشة وتكتب عن قرمط، كان لازماً ألا تكتب لا عن عائشة ولا عن قرمط.
لذلك رددت وقلت في مقدمة الطبعة الثانية: أنا أنتمي إلى قرمط وإلى عائشة، أنتمي لكل ماضي هذه الأمة، وأنا محصلة من محصلات الحضارة العربية التي صنعها السني والشيعي والمسيحي وكل أفراد هذه الأمة، وهذا الانتماء يجعلك تكون حيادياً بين الجميع.
أنا أكتب في تاريخ ولا أصدر فتاوى لا أكفر ولا أمنح شهادات إيمان.
وإنما أحاول بقدر ما يمكن أن أكون علمياً ووثائقياً، ويبدو أن العلمية والوثائقية تغضب كثيراً من الناس».

ما بين الكتاب والتلفزيون
عن تراجع القراءة والاهتمام بالكتاب وعلى الخصوص لدى الفئة العربية الشابة، ومدى خطورة هذا الأمر على الذاكرة الثقافية والحضارية للأجيال الشابة قال: «مع ذلك ثمة إقبال من الجماهير على درس التاريخ، وأنا أتمنى الإفادة من الشاشة البيضاء (التلفزيون) بأن نزيد من تقديم صورة التاريخ الصحيح، وكل عصر له وسائله للتعليم، أنت تطبع كتاباً قد يراه مئة قارئ، لكن عندما تطبعه على الشاشة البيضاء سيراه مئة مليون، ثمة صور يتمناها الإنسان أن تكون مشرقة أكثر».

في جوانب أخرى
لطالما التفّ طلاب د.زكّار حوله لاهتمامه بكل من رغب بأن يزيد من معارفه، وكان بالفعل متفاعلاً ومهتماً بنقل العلم والفائدة لغيره بشتى الطّرق، ولم يبخل حتى بتقديم أي كتاب لكل من يرغب من طلابه، على الرغم من أنها أغلى ما لديه، وخصوصاً أنه كان يدخل كأقل تقدير إلى مكتبته باليوم كتاباً جديداً وعلى مدار السّنة، وحتى إنّ نسبة قراءته لها تفوق نسبة الخمسين بالمئة، وهذا الأمر ليس بمستغرب لأنّ مكتبته الخاصّة كانت تحوي بين 30 إلى 35 ألف كتاب في مواضيع شتّى، وهذا ليس مستغرباً على قامة دأبها مستمر ولم ينقطع يوماً، في الجلوس خلف المكتب، يكتب ويقرأ وينقّح ويصحّح، من دون أن يكلّ أو يملّ، إذ كان يعيش في عوالمه الخاصة منكبّاً على الوريقات التي بين يديه ناسياً تماماً ما يدور من حوله.

في حياته ودراسته
وُلـِد د.زكّار في مدينةِ حماة سورية عام 1936 منَ أسرةٍ متوسـّطةُ الحالِ، فوالده كان يعمل في أعمالٍ تجاريّـة، ولحقت به خسائر مادية كبيرة نتيجة ما جرى في حماة أيـّام الانتداب الفرنسي على سورية، مما اضطر د.زكّار لترك المدرسة والإنقطاع من أجل العمل وتأمين لقمة العيش والتـّعاون مع الأسرة.
لكن شغفه و عشقه للمعرفة لم يخب رغم قساوة الأيام حيث بقي ناهلاً في قراءاته لكل ما كان يأتي بين يديه من كتب مختلفة واطلاعات متنوعة تذهب كلها في موضوعها نحو التاريخ الذي يعشقه، حتى نال الشـّهادة الإعداديّة في عام 1952 .
بعد ذلك عمِل معلـماً وكيلاً في ريفِ حماة. وعندما فكر في متابعة الدراسة والتحصيل العلمي لنيلِ الشـّهادةِ الثـّانويّـة، لم تكن الأمور سهلة، ففي عام 1956 كان راحلنا قد وصل بعمره إلى سنّ أداءِ خدمةِ العلم وأثناء ذلك كان العدوان الثلاثي على مصر ، لكن هذا الأمر لم يمنعه من السعي الجاد للحصولِ على الشّـهادةِ الثـّانويـّة ، إذ كان ينتقل من الشـّيخ مسكين إلى دمشقَ ليلاً للوصولِ صباحاً من أجلِ تـأديةِ الامتحانات والعودة. وكانت النتيجة بأنه نجح وبتفوّق وأخذ بمقرّر التـّاريخِ أكثر من 190 درجة من 200.

ما بين الجامعة و التدريس
تقـدّم للتـّسجيل في الجامعة وبالطبع مجموع علاماته خوله للاإلتحاق بأيّ كليـة موجودة آنئذٍ، وبما أنـّه كان مفطوراً على حـبّ التـّاريخِ دخل هذا القسم، ومع أنّـه لم يكن مداوماً على المحاضرات في الجامعة لكنـّه اجتاز الامتحانات كلـها بنجـاح وكان المتخرّج الأوّل في الجامعة، بعد التـخرج عام 1963 تقدّم لمسابقة المدرّسين في وزارة التّـربية ولمسابقة أخرى ليكون مُعيداً في كلّـيّـة الآداب، نجح في مُسابقة المدرّسين وكان الأوّل على سورية. وعُيـّن في حماة، وحينها قال له مديرُ تربية حماة: (لأنّـك ستترك التـّدريسَ وتذهب إلى الجامعة لن أعيّـنك في المدينة)، وبالفعل تمّ تعيينه في السلمية وهناك درّس ثلاثة أشهر، بعد ذلك كانت قد صدرت نتائج القبول في المعيدين ونجح، وقرّرت الجامعة إلحاقه بها كمعيد مع إتّخاذ قرار بإيفاده إلى إنكلترا وفي هذه الفترة أقدم على تحقيق كتابين مهمين هما: طبقات خليفة بن خياط، وتاريخ خليفة بن خيّاط المتوفّى 240 هـ وصدرا له فيما بعد عن وزارة الثقافة في دمشق.

في لندن
في أواخر عام 1964سافر إلى لندن، وصلها وهو لا يعرف اللّغة الإنكليزيّة كانت معلوماته متدنّية في الإنكليزيّـة ولم يكن يعرف أحداً هناك على الإطلاق ومرّت أيّـام صعبة عليه، وأخيراً وجد غرفة عند الجيران وبالوقت نفسه انتسب إلى مدرسة «ديفيز سكول» ليتعلّم الإنكليزيّـة وذهب إلى الجامعة والتقى رئيسَ قسمِ التّـاريخ المستشرق برنارد لويس. قال له: عليكَ أن تتعلّـمَ الإنكليزيّـة وعاد من الجامعة من أجل اللّغة الإنكليزيّـة، ثمّ بدأت رحلة العمل الدؤوب، أصبح يداوم صباحاً في المدرسة الخاصّـة وفي المساء يذهب إلى مدرسة تابعة للبلديّـة، وخلال شهر أصبح يقرأ ويتكلّـم بالإنكليزيّـة، وكان قد قـرّر أن يحفظ «معجم إنكليزي-إنكليزي» واستفاد من ذلك كثيراً، كما استفاد من قراءة ترجمة القرآن الكريم إلى اللّغة الإنكليزيّـة، بعد هذا الشّـهر ذهب إلى الجامعة والتقى ثانيةً «لويس» الذي اندهش لذلك وطلب منه أن يخطو الخطوة الثّـانية.

دراسته وتدريسه
كان موضوع الماجستير حول إمارة حلب في القرن الحادي عشر للميلاد، أي الموافق للقرن الخامس الهجري، وأثناء المتابعة للدراسة بدأ رحلة قادته إلى تركيّا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا للحصولِ على المخطوطات ثمّ تابع الدكتوراه، درّس في لبنان والمغرب لمدة 3 سنوات ثم عاد لبلده سورية واستقر فيها مدرساً ومؤلفاً ومحاضراً وباحثاً.

مشروع موسوعة تاريخ الحروب الصليبية
في عام 1991م وافق على مشروع ضخم وهو إخراج كتاب كبير في تاريخ الحروب الصليبية سماه «الموسوعة الشامية في الحروب الصليبية». ومنذ ذلك الحين وهو يعمل على هذه الموسوعة بالتعاون مع طلابه، ويذكر عنه أنه سيكون أوسع وأشمل كتاب من نوعه في أي لغة في العالم إذ سيضم 45 ألف صفحة وقد تأتي هذه الصفحات ما بين 90 إلى 95 مجلداً.

من مؤلفاته
الموسوعة الشاملة في تاريخ الحروب الصليبية (50 مجلداً)
مدخل إلى تاريخ الحرب الصليبية
ماني والمانوية
مختارات من كتابات المؤرخين العرب
إمارة حلب في القرن الحادي عشر الميلادي
الإعلام والتبيين في طروح الفرنج الملاعين، تحقيق
الانحياز، ترجمة
أخبار القرامطة، تحقيق
تاريخ العرب والإسلام
تاريخ يهود الخزر
الحشيشية: الاغتيال الطقوسي عند الإسماعيلية النزارية
طبقات خليفة بن خياط.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن