ثقافة وفن

ريمون بطرس المبدع والإنسان… وداعاً … بعد مشوار طويل في السينما السورية ترك شريطاً سينمائياً لا ينتهي

| جُمان بركات

في كل زيارة من زياراته لقلعة حماة تعود به الذاكرة إلى سنوات مضت، ذاكرة ارتبطت بحدث مفجع جرى على القلعة في شباط عام 1949، كان يسمعه من الأهل والأقرباء ويعني أهل الحي حول العاصفة الهوجاء التي جرت بعد وصول الفلسطينيين إلى مدينة حماة أيام النكبة مباشرة عام 1948 واستقبال الأهالي بترحاب وحب وتضامن حقيقي فعلي، حيث تم بناء عدد كبير من الخيام على قلعة حماة وأسكنوهم فيها واقتلعت العاصفة هذه الخيام من جذورها. في فيلم «الترحال» استدعى المخرج ريمون بطرس فترة ما بعد استقلال سورية ليؤرخ بصرياً الحالة الاجتماعية إبان نكبة فلسطين، وأرخ أيضاً أحداث سورية في تلك الفترة، وقدم دلالة على أنه منذ تلك اللحظة بدأت أوتاد وأركان الخيمة العربية بالتزعزع.

لم تكن الوعكة الأولى التي أصابت المخرج ريمون بطرس منذ فترة، ولكنها للأسف كانت القاسمة، فبعد مكوثه في المستشفى واستجابته للعلاج رغم صعوبة حالته كان الموت هو الأسرع، فرحل عن عالمنا في الأمس تاركاً للأجيال إرثاً سينمائياً مميزاً، وكتب أسطر عطائه بأحرف تحمل سطوة الخلود، إنها إبداعات يصعب على الزمن أن يتجرأ للنيل منها لأنها راسخة في عقول وأفئدة الكثيرين، وتحولت مع الأيام إلى ذاكرة وإرث فني وفكري وجمالي وحضاري.
كان ريمون بطرس دائم الحلم والطموح حتى في قمة مرضه وألمه، متطلعاً إلى مشاريع يريد تحقيقيها، فهناك الكثير مما أراد ترجمته على أرض الواقع أفلاماً سينمائية، ولم يكن لديه وقت للموت فكيف غافله ونال منه؟.. أحقاً للموت قدرة على إنهاء حياة مبدع؟ سؤال ربما تجيب عنه أعمال كُتبت بنبض الروح عن مخرج سينمائي سعى جاهداً أن يعكس ثقافته وروحه وفكره وآلية تعاطيه مع الحياة عبر نتاجه السينمائي.

السينما
اختصر ريمون بطرس الفن السابع بقوله: «السينما هي أعظم فن في تاريخ الإبداع البشري وتصبُّ فيها حصيلة إبداع البشرية من أدب وفن وموسيقا». كان بطرس مثل أغلب الذين دهشتهم السينما في طفولتهم، فقد ارتاد صالات مدينته لمشاهدة أفلام المغامرات الغربية قبل أن تستهويه أعمال فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ونادية لطفي، إلا أن ما ولد لدى ريمون بطرس عشقاً كبيراً للسينما هو فيلم «روميو وجولييت» فبعد ما اكتشف رائعة زفيرلي مسك القلم وكتب مقالاً عنه نشر في إحدى الصحف السورية ما شجع الشاب البالغ من العمر ستة عشر عاماً على الانطلاق في مشوار لم يدرك آنذاك أنه سيسلك طرق السينما الوعرة.
وحملت أعماله سمات ميزتها عن غيرها، فهي لم تكن مجرد وعاء يجمع أحداثاً اجتمعت في مكان وزمان واحد، إنما كانت حصيلة فكر يحمل نظرة خاصة للثقافة والفن والموسيقا والحياة بشكل عام، لينتج عنها هارموني منسجم بالكلمة والشكل والصوت، ووراء أفلامه تكمن ثقافة سينمائية مرتبطة بالمجتمع بشكل يتيح للفيلم السينمائي أن يكون غنياً بمضمونه كمادة ثقافية وفنية قابلة للحياة، وليست مجرد مادة استهلاكية ينتهي تأثيرها بعد مدة محددة.
لريمون بطرس خمسة عشر فيلماً تسجيلياً «صهيونية عادية» وروائي قصير «عندما تهب رياح الجنوب»، وتسجيلي طويل «المؤامرة مستمرة» وهو إنتاج مشترك سوري سوفييتي، و«همسات» و«خطوات» و«أحاديث الحجر» و«حصاد وآفاق» و«الملتقى» و«ترانيم» و«مدن الأيام القادمة» و«حلب على ضفاف المستقبل» و«حسيبة» و«ملامح دمشقية».

حماة
ولد ريمون بطرس في حماة عام 1950، وتمحورت أفلام المخرج ريمون بطرس على مدينة حماة ونهر العاصي وعكست مدى ارتباطه ببيئته التي عاد إليها مراراً كي يروي غليله في دفء التربة التي استمد منها مشهده السينمائي، وأنجز عن مدينته أربعة أفلام، فيلمان روائيان طويلان هما «الطحالب» الذي أظهر فيه مدى ارتباطه بجذوره وتأثره بحماة والنواعير وباب النهر والعاصي، حيث قدم لوحة بانورامية للحياة في مدينة حماة، ومن خلالها يصور الفيلم عائلة مؤلفة من ثلاثة أشقاء وشقيقتين، تدور فيما بينهم صراعات عائلية حول قطعة أرض موروثة، ويرصد الفيلم ما يمكن أن يفعله المال والصراع على المصالح بمصير أشخاص تربطهم رابطة الدم، وفيلم «الترحال»، وفيلمان تسجيليان هما «الشاهد» و«نشيد البقاء»، كانت أفلاماً عن العاصي ونوابعه وناسه وحجارته عما شهده خلال سنوات وسنوات طوال.

الخط الشامي
دخل ريمون بطرس بكاميرته إلى مراسم الفنانين وعرض أعمالهم التي اشتغلوها عبر عشرات السنين ليثبت للعالم أن سورية ما زالت ترسم رغم الكوارث والفجائع التي تمر بها، وأن الفن والإبداع في سورية لم يتوقفا، بل ما زالا مستمرين رغم المعاناة التي أفرزتها ظروف الأزمة، فقد قدم المخرج بطرس فيلمه «أنغام الخط الشامي» وهو فيلم تسجيلي مدته 35 دقيقة من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، حيث تناول موضوع الحروفية في الفن التشكيلي من خلال تجارب تسعة فنانين تشكيليين مسلطاً الضوء على مواهبهم في استخدام الحرف العربي كعنصر أساسي في اللوحة التشكيلية إلى جانب عنصر اللون.

«أطويل طريقنا أم يطول»
أخذ المخرج ريمون بطرس عنوان فيلمه الأخير من شطر بيت شعر المتنبي، دون أن ينطلق من مفهوم ديني أو عقائدي وإنما من مفهوم وطني تحت شعار «تحيا سورية»، وفي فيلمه الروائي القصير «أطويل طريقنا أم يطول» الذي أخرجه وكتب السيناريو له وأنتجته المؤسسة العامة للسينما، رصد بطرس على مدى أربعين دقيقة حياة السوريين وما آلت إليه الظروف بعد الأزمة التي عصفت بالعديد من العائلات السورية وما ترتب على تلك المرحلة بكل تجلياتها ومفرزاتها، وحمل الفيلم رسالة عن الغربة والحنين للوطن، ويبقى الحب هو الرافعة والمحمول الدرامي اللذين ارتكز عليهما الفيلم، وكرّسها بطرس في الجملة الأخيرة من الفيلم «وبلا نهاية للحكاية» لتبقى مقولة الفيلم مفتوحة على كل أشكال التأويل.

الجوائز
مارس ريمون بطرس الكتابة الصحفية والنقد السينمائي، كما احترف الترجمة من الروسية إلى العربية، وعمل مترجماً حيث ترجم نحو مئة وخمسين ساعة سينمائية لمصلحة التلفزيون السوري بين أفلام روائية وأخرى للأطفال إضافة إلى بعض المسلسلات، كما ترجم عشرات الدراسات والمقالات بمختلف المجالات، وعمل محرراً للأخبار في الإذاعة السورية القسم الروسي.
نال عن أفلامه العديد من الجوائز: الجائزة الذهبية في مهرجان مولدست عن فيلم «صهيونية عادية»، والجائزة الفضية عن فيلم «الشاهد» في مهرجان دمشق السينمائي الخامس، والجائزة الفضية في مهرجان دمشق السينمائي السابع، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان الفيلم العربي في باريس، وشهادة تقدير في مهرجان بيونغ يانغ في كوريا الشمالية عن فيلم «الطحالب»، والجائزة الفضية في مهرجان دمشق السينمائي العاشر والجائزة الفضية في مهرجان بيونغ يانغ في كوريا الشمالية وجائزة لجنة التحكيم الخاصة عن فيلم «الترحال» في مهرجان الإسكندرية.
كتب ريمون بطرس للتلفزيون مجموعة من المسلسلات هي «قلوب خضراء»، و«أم هاشم»، و«زواريب مدينة منسية» وأخرج مسرحية عن رواية «الحرب في بر مصر» للكاتب يوسف القعيد، وعمل بين عامي (1979- 1987) محرراً للأخبار في الإذاعة السورية -القسم الروسي، وأعد برنامجاً إذاعياً أسبوعياً فيها بعنوان: «بانوراما ثقافية» القسم الروسي كما أعد للإذاعة عشرات التمثيليات عن نصوص أجنبية.

شهادات
نعت نقابة الفنانين السوريين عبر حسابها المخرج الكبير ريمون بطرس، وكتبت الفنانة سلاف فواخرجي عبر صفحتها: «كان الترحال هاجسك، من مكان إلى آخر، ومن وطن استوطنك، إلى غربة في قلبك وأنت بين ناسك، ومن ترحال روح إلى أخرى، ومن ترحال فكرة إلى إبداع، ومن حجر صقلته بيديك وأنت طفل صغير مع أبيك في حماة الحبيبة، إلى حجر سيحمل اسمك وعليه تاريخ رحيلك، ريمون بطرس ريمون أيها الفنان الحجّار، السوري برقة وعنفوان نهر العاصي، وصلابة حجر بيوتات حماة العتيقة، السلام والرحمة لروحك المُحبّة: سلاف فواخرجي.
وبدورها كتبت المخرجة رشا شربتجي: «رحم اللـه المخرج السينمائي السوري ريمون بطرس، رحيله خسارة كبيرة، إنا لله وإنا إليه راجعون».
وكتب الكاتب سامر محمد إسماعيل: «لعنة اللـه عليكم»… عبارة هي لازمة كان ريمون بطرس يكررها في كلامه مازجاً الجد بالمزاح بطريقته الطفولية المحببة، مازلت أسمع الآن هذه العبارة حتى بعد موته، أظن أن بطرس اختار هذه اللازمة الغاضبة حتى تبقى ترن في أسماعنا وهو يصرخها من حديقة بيته في مساكن برزة، هناك من قاسيون حيث صدى الصوت يغلب الموت، وحيث العزلة التي عاشها المخرج السينمائي تعرف من يستحق لعناته اللاحقة».
وكتبت الفنانة أمانة والي: «لم أتوقع أن تغادرنا ظننتها وعكة صديقي الجميل النبيل المبدع عازف العود، قد اخترت عالماً أجمل، لروحك السلام لم نعد نبكي، جمد الدمع في مقلتينا».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن