قضايا وآراء

إدلب ومناخات ما قبل القمة

| محمد نادر العمري

مسارات متناقضة ينتهجها النظام التركي في سلوكه تجاه مدينة إدلب وطبيعة الصراع الذي تشهده المنطقة، وخاصة بعد الانتكاسات السريعة والمتكررة للمجموعات المسلحة التي تشكل ذراعه التنفيذية هناك ومن ثم تدخله بصورة مباشرة للحد من هذه الخسائر ومحاولة تعويضها عبر سلوك عدواني بهدف تحسين واقعه التفاوضي مع جميع الأطراف وإعادة ترتيب الاصطفافات بما يحقق مصالحه، بعد تأزم وضعه السياسي على الصعيدين الداخلي والخارجي وفق ما وصفته جريدة «لوموند» الفرنسية السبت الماضي.
رئيس النظام التركي رجب أردوغان وحسب وصف بعض الدبلوماسيين والجنرالات الأتراك، يريد نقل «مشكلاته الداخلية للخارج»، ولكنه في ذات الوقت بدأ يصطدم بواقع ارتفاع شعبية خصومه الداخليين مقابل تراجع شعبيته، وبدأ يتلمس توحد صفوف المعارضة، فضلاً عن أن هذا التصدير للمشكلات نحو الخارج عبر الاعتداء على سورية، قد يُحمّل الاقتصاد التركي المزيد من الأعباء التي هو بغنى عنها، كما أن العوامل والظروف الخارجية لا تصب بمصلحة أردوغان في ظل ازدياد خصومه ومنافسيه باستثناء الأنظمة الأخوانية وفي مقدمتهم قطر نتيجة سلوك النظام التركي العدواني واصطدام المصالح، الأمر الذي يضع هذا النظام ورئيسه أمام مفترق طرق:
• التصعيد نحو مغامرة كارثية، فوفق ما كشفت صحيفة «يني شفق» التركية «إن الاجتماع الأمني الأخير الذي ترأسه أردوغان في أنقرة والذي استمر لست ساعات تمخض عنه قرار بشن حرب شاملة ضد سورية، تستهدف فيها تركيا مواقع الجيش العربي السوري في مختلف المدن السورية، وليس في إدلب فقط»، وهو ما سيترتب عليه نتائج غير محمودة العواقب ولن تقتصر على سورية وتركيا، بل ستجد دولاً أخرى وقوى عسكرية نفسها في خضم هذا التصعيد بوسائل ووجود مختلفين.
• الاستمرار في اتباع سياسة حافة الهاوية والتفاوض تحت ضغط الاشتباك من قبل النظام التركي حتى الوصول لاتفاق جديد ينشده أردوغان أثناء لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخميس القادم في موسكو.
ولكن الملاحظ في سياق كل ما تقدم أن تعقيد المشهد الميداني وعدم وجود آمال كبيرة بانفراج سياسي قريب محتمل، ترافق مع ثلاثة تطورات ومواقف بارزة خلال الفترة الماضية والتي قد تتبلور بعد إعلان النظام التركي بدء عملياته تحت مسمى «درع الربيع» في الشمال الغربي من الجغرافية السورية:
أولاً: أردوغان وظف كل الوسائل المتاحة التي يمتلكها للضغط من أجل تحقيق خرق في التطورات الحاصلة لإعادة عقارب الساعة للوراء عبر مطالبته انسحاب الجيش السوري لما قبل خان شيخون، ضارباً عرض الحائط بمطالب المعارضة والشعب التركي والنخب السياسية بعدم التدخل ساعياً لتعتيم الحقائق عن الشعب التركي، ومحاولاً إثارة الشعور القومي والديني بهم في محاولة الحصول على الشرعية لسلوكه العدواني من خلال تبرير ذلك «بحماية الأمن القومي التركي واسترداد حقوقهم المسلوبة وتسمية جيشه والمجموعات المسلحة بالجيش المحمدي»، وتسيس الملف الإنساني الخاص باللاجئين وتوظيفه من أجل الضغط على أوروبا والأطلسي، ليس من أجل التدخل لجانبه ودعمه فقط بل لابتزازهم في الحصول على الدعم المادي وللانتقام من الأوروبيين الذين فرضوا عقوبات على بعض مسؤوليه نتيجة رغبتهم بسلب الغاز في المتوسط وهي الورقة التي لم تعد ذات تأثير كبير كما كانت بين عامي 2015و2016، ولم يجد التركي حرجاً في الإلماح بالعودة للحضن الأميركي في حال استجابت الأخيرة لمطالبه بنشر «الباتريوت» وقامت بعمليات عدوانية عبر طائراتها ضد مواقع حساسة للجيش السوري، وفق ما عرضه النظام التركي على المبعوث الأميركي الخاص لسورية أثناء زيارته الأخيرة لأنقرة، وهذا العرض وقبله التوجه نحو الروسي شكّلا مؤشراً على عدم التزام أردوغان في تحالفاته واستعداده لتغييرها بسرعة قياسية لتحقيق أجنداته وهو ما يخيف أي شريك أو حليف له، فضلاً عن قيامه بتصعيد ميداني عبر مشاركته مباشرة بجميع الوسائل العسكرية بما في ذلك طائرات «الدرونز» المتطورة، وتزويد المسلحين بأنظمة متطورة كسلاح «ستينغر» والذي يهدد سلاح الجو الروسي وليس السوري فقط، وتجاهل المبادرة الإيرانية وقيامه باستعداء حلفاء دمشق عبر استهدافهم بشكل مقصود.
ثانياً: بيان المجلس الاستشاري الإيراني، وهو يعتبر نادراً بإعلانه ومضمونه إن لم نقل الأول من نوعه خلال الحرب على سورية، رغم صدور بيانات سابقة لحلفاء دمشق أثناء معركة تحرير شرق حلب في 2016، ومضمون رسالة الشكر التي وجهها الرئيس بشار الأسد في كلمته المتلفزة بعد استكمال تحرير مدينة حلب منذ أسابيع لتضحيات الأشقاء والحلفاء، وبالتالي البيان تضمن دلالات ورسائل بالغة الأهمية:
1. سورية ليست في المعركة لوحدها بل لها حلفاء وأصدقاء هم في الخندق نفسه بمحاربة الإرهاب ومتمسكين بدعم سورية حول تحرير أراضيها واستقلالها ومحاربة الإرهاب، على عكس الوضع التركي الذي لم يجد أي دعم له من أصدقاء سوى بالتصريحات.
2. تضمن البيان شرح تفصيلي عن دور وعمل المجلس في تلبية دعوة دمشق للمشاركة بتحرير الطريق الدولي والدفاع عنه في التصدي لاعتداءات الإرهابيين متعددي الجنسيات وتقديم المساعدة للمدنيين.
3. أكد البيان على تقصد العدوان التركي على تجمع حلفاء سورية رغم إرسال وسطاء للنظام التركي بأنه يستهدف المجلس الاستشاري وأن من قام بالرد هي المدفعية السورية، وهو ما يثير تساؤلاً حول أهداف النظام التركي من ذلك، هل هي رسالة لروسيا قبل إيران ومحور المقاومة بعدم التدخل في المعركة؟ أو أن هذا السلوك يعبر عن حالة الهستريا التي أصابت النظام التركي بعد مقتل 36 جندياً له وأراد إظهار نفسه كبطل على الصعيد الداخلي؟
4. تضمن البيان فقرة لها مدلولها العسكري وهي: ملتزمون بعدم الرد بناء على طلب القيادة حتى الساعة، وهذا يحمل تفسيراً بأن التزام عدم الرد هو مؤقت في حال استمرار العدوان.
5. إشارة البيان لبعض الأهداف التي يمكن استهدافها وضمن قدرات المجلس الاستشاري وهنا تم تحديدها بنقاط المراقبة، وهي رسالة تضمنت إلى جانب التهديد المبطن، مخاطبة الرأي العام الداخلي التركي لممارسة الضغط على نظامه للتعقل والعودة للتنسيق مع ضامني أستانا.
ثالثاً وهي متعلقة باستثمار الأميركي فيما يحصل من تصاعد التوتر السوري التركي، لخلط الأوراق وإعادة توزيع الأدوار على صعيدين:
• الأول هو الضغط على قسد لعدم التدخل لجانب الجيش السوري وبخاصة بعد لقاء المبعوث الأميركي الخاص لسورية جيمس جيفري ورئيس لجنة التسليح في الكونغرس رالف ابراهام مع قائد ما يسمى «قسد» مظلوم عبدي، الأمر الذي أوحى بمصلحة مشتركة في استنزاف التركي والسوري بمعركة تحسّن تموضع «قسد» التفاوضي مع دمشق وتبعد الخطر التركي عنها.
• التصعيد الثاني هو استشعار واشنطن لخطورة التقارب السعودي مع سورية وممارس الضغط على الرياض لعدم الانفتاح على دمشق بل وإصدار بيان منفرد من السفارة الأميركية في سورية لإدانة العمليات العسكرية السورية في إدلب رغم الخلاف التركي السعودي.
وبذلك أميركا تحرج السعودية وتدفعها نحو هذا الموقف لتحقيق عدة أهداف:
– محاولة إعادة السعودية للعب دور سلبي في الملف السوري وقد تكون عبر بوابة المنطقة الشمالية الشرقية من خلال إنشاء كيانات عشائرية عربية ودمجها مع «قسد».
– استمرار محاولة واشنطن عزل سورية عن محيطها العربي.
– تصعيد الحصار الاقتصادي على سورية وحرمانها من استثمار إنجازاتها وخاصة تحرير الطريقين الدوليين لتحسين الواقع الاقتصادي عبر تفعيل معبر نصيب الرابط بين المتوسط مع دول الخليج.
– قد يكون هناك هدف أميركي عبر بيان سفارتها إدانة العمل العسكري السوري بتحرير إدلب هو إيجاد مناخ مصالحة بين التركي والسعودي لتوظيف سلوكهما ضد سورية وإيران.
– عرقلة إنجاز تقدم في مؤتمر المعارضة بالقاهرة مع مطلع آذار القادم وبالتالي استهداف أي اتفاق تم التوصل إليه سعودياً مع روسيا.
المتابع للتصريحات الروسية الإيرانية خلال الأيام الماضية والبيانات الرسمية والاتصالات الدبلوماسية المكثفة بين الجانبين، يلمس بأن هناك محاولة لاحتواء الفورة التركية في عدم حصول اشتباك تركي سوري يخدم الأجندة الأميركية أولاً ويستهدف أستانا ثانياً ويطيل أمد الحرب ثالثاً. ولكن لا يعني ذلك بأن روسيا وإيران وقفتا على الحياد بل ما حصل في سراقب من دعم بالسلاح الروسي والقوى البشرية للمقاومة خير دليل على معركة كسر العظم التي أحبطت ما يسمى عملية «درع الربيع»، وانتشار قوات الشرطة العسكرية الروسية بسراقب خطوة مهمة في ضبط السلوك التصعيدي للنظام التركي وربما تشكل وسيلة نزول أردوغان من أعلى الشجرة التي وضع نفسه بها وتشكل مخرجاً يحفظ ماء وجهه في الداخل التركي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن