ثقافة وفن

عندما يصبح «الموت» شغفاً … سيلفيا بلاث ومجد الشعر وفينوس بعد الموت الذي عشقته

| إسماعيل مروة

هذا يحدث فهل يستمر؟
عقلي صخرة
ولا أصابع أتمسك بها، لا لسان
إلهي هو الرئة الحديدية
التي تحبني، وتنفخ
حقيبتي، التي من الغبار
إلى الداخل ثم إلى الخارج
لن تدعني

الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث التي عرفت شعرياً، وتعملقت بعد وفاتها منتحرة، والتي تقدم تجربة تستحق أن يقف عندها المرء، وخاصة في إطار دراسة الشعر الحديث، إن كان على المستوى العالمي أم على المستوى العربي في إطار من العالمية، والتأثر والتأثير، ويمكننا من خلال دراسة شعرها والنماذج الشعرية العالمية المهمة إدراك أسباب نجاح التجربة الحداثية في الغرب، وإخفاقها في شعرنا العربي الحديث، وليس ذلك من قبيل تسويغات عادية، بل من خلال دراسة الفكر وتهويماته، والإبداع وجنونه والأمر يحتاج إلى إمعان نظر في نقل هذه التجارب، وقد يكون من حسن الحظ أن يتم نقل شعر هذه الشاعرة المختلفة بذائقة ناقد عاش في أميركا ودرس، وشاعر له إسهاماته المميزة هو الأستاذ الأكاديمي الدكتور عابد إسماعيل، الذي قدّم أعمال الشاعرة بأحكام فنية وشعرية، ولم يخضع حتى سيرتها إلى الحكم الأخلاقي وأحكام القيمة.

الانتحار والنظرة
يسوق الشاعر المترجم في سيرة الشاعرة قوله: «لماذا انتحرت سيلفيا بلاث؟ والأصح لماذا ظلت تحاول الانتحار طوال سنوات حياتها القصيرة؟ قد تكون أخفقت مراراً منذ سن المراهقة، لكنها لم تيئس من اليأس، أو قل من وعد الموت، وظلت تحاول إتقان تلك اللعبة الخطرة على حافة الهباء، لم تيئس من مغازلة هذا العشيق القاتل. مرة بعد أخرى، وحين نجحت في المحاولة الأخيرة، وماتت حقاً، ولدت شعرياً من رمادها، لتنسج اللغة بعد غيابها، أسطورة الشاعرة التراجيدية التي انتحرت في أوج توهجها.
أنهيت صلتي بهذا الفندق الفخم المصنوع من الزجاج
حيث الصفات تلعب الكروكيت مع أسماء الفلامينغو
لاشك لدي أني سأغيب نفسي لبعض الوقت
عن بلاغة تلك الملكات المزخرفات ببذخ اللون
مادة أولى تخلص من الأيقونات الملكية
وأعرض في المزاد كل فعل، نادر، أبيض كالأرنب
وأرسل لي ملهمتي، أليس محملة بقصاصات
التشابيه من نبات الفطر، ورداء البرتقال
إن المترجم د. عابد يقف عند فلسفة الانتحار عند بلاث بطريقة منطقية نفسية، فالموت شغف عند الشاعرة وعشيق، وليس صديق مصادفة كما قد يظن، ولم تهرع إلى الانتحار والموت لسبب أو علة أو صدمة، بل كان الموت عندها عشقاً ولعبة، وبقيت تحاول الوصول إلى عشقها حتى تمكنت من السيطرة عليه والوصول إليه، ولكنها في تلك اللحظة التي أسلمت نفسها لعشيقها كان رمادها المتحول إلى مارد شعري عظيم أكسب سيلفيا الكثير من البقاء والخلود. فهي التي شهدت الأشجار التي تيبس في الشوارع لا تريد أن تكون تلك اليابسة، بل أرادت أن تكون اليانعة، اليانعة في يد عشيقها الموت، وما من عبث اختار المترجم تعبير عشيق بدل عاشق، لأن الشاعرة هي التي هامت به وسعت إليه في كل لحظة حتى تمكنت منه، وجعلته ملكاً لها.

في ميزان النقد
كتب الشاعر تيدهيوز عن الشاعرة وشعرها، ولعل من طريف ما وقف عنده الحديث عن عنوانات المجموعات الشعرية، فهي كانت تتردد في العنونة، وتجنح إلى الإلهام والوحي والرؤية، وكثيراً ما غيرت عنواناً وسوّغت ذلك «كتبت في عام 1959 تقول: بدلت عنوان كتابي الشعري كنوع من الإلهام لكتابه (شيطان الدرج) هذا العنوان يضم بين حناياه كتابي برمته، ويشرح قصائد اليأس، التي لا تقل خداعاً عن الأمل ذاته».
وتستمر لعبة العنونة والقصائد وإضافتها وتغيير أشياء، وإضافة قصائد، ولأن أعمالها الشعرية كاملة نشرت بعد رحيلها من خلال جمع المجموعات والمسودات، ومطبوعات الآلة الكاتبة، فقد عمد تيد هيوز إلى التفصيل الزمني في أطوار الشاعرة الحياتية والشعرية، بياناً لأمانته العلمية في الحفاظ على إرثها.

من سيلفيا؟
يقدم المترجم د. عابد إسماعيل قراءة مهمة في بداية الأعمال الشعرية لسيلفيا، ولعل معالجته لموضوع الانتحار هي الأكثر عمقاً، لأنه دخل في عمق النص الشعري.
الغارقة في ذاتيتها، الشفافة حيناً، المعتمة حيناً آخر، المتأرجحة بين قطبي البوح الشفيف، والتكتم الملغز.. إنها القصيدة التي لا تتنكر لولعها بالجواني، ورغبتها الصادقة في الكشف عن مكنونات امرأة.. قلقة، إنه الرعب بكل أشكاله، إذاً، يلاحق الشاعرة، في نومها، في يقظتها، في صمتها وكلامها، ويغريها بالمضي قدماً إلى حافة التهلكة، في انتحار الجسد، حاولت بلاث أن تتخلص من ثقل الحواس، وفي انتحار الكتابة حاولت الطيران بأجنحة البلاغة.. وأنت تقرأ قصائدها، تشعر بأنها لم تكن تكتب صوراً ورؤى وأحاسيس فحسب، بل تلفظ أنفاساً أخيرة مع كل فاصلة ونقطة، وليس مبالغة القول: إن القصيدة عن سيلفيا بلاث هي سلسلة شهقات كانت متتالية عالية حيناً، خفيضة حيناً، كمثل نحيب مفجوع».
أنا شبح انتحار ذائع الصيت
وموس الحلاقة الأزرق يصدأ فوق حنجرتي
وفي سرده لسيرتها الذاتية يظهر المترجم عمق المأساة التي تعرضت لها سيلفيا في حياتها، ولعل حديثه عن علاقتها بتيد هيوز الذي جمع أعمالها وقدم لها من الأهمية بمكان، فالشاعرة من مواليد 1932 وتزوجت من تيد هيوز الذي أحبته حتى وصفت تأثير صوته فيها بـ0 رعد اللـه، وعام 1962 وهي في عز شبابها يقول المترجم: اكتشفت سيلفيا أن هيوز على علاقة غرامية، مع امرأة أخرى، ما جعلها أكثر تشتتاً وضياعاً، وقرر الاثنان الانفصال، وفي شقة استأجرتها نجحت في الانتحار في 11 شباط 1963.
وبعد انتحارها تعود إلى يدي تيد هيوز لينشر أعمالها الشعرية الكاملة ويقدم لها! وكم كان الحديث معبراً عن إحساسها، لتجد نفسها مجبرة على أن تسقط من علياء العاشقة المثالية، وتتخلى عن صورة فينوس الحبيبة، وتهبط إلى قاع الحياة اليومية، عبر وقوعها في غرام عشيق لا يخون أبداً اسمه الموت.
كل هذا حدث مع إشارات سيلفيا إلا أن تيد كان يضربها ضرباً مبرحاً، ويعمل على تعنيفها!!

في عمق الشعور
لم أكن أعرف شيئاً عن شعر هذه الشاعرة، وكل ما أعرفه اسمها الذي أخطئ في لفظه حتى قرأت أعمالها الشعرية الكاملة التي صدرت في دمشق عن دار التكوين مطلع عام 2020، ووجدت فيها من العمق والرؤية ما يستحق، واخترت للقارئ الكريم مقطعاً صغيراً من (رجل الثلج فوق اليباب):
متعادلة، تقف جيوشهما براياتها الممزقة:
المرأة، فرت هاربة من الحجرة،
ترفل بوابل من الشتائم والإهانات،
هجرته غاضبة جداً، تحدق بانشداه
إلى مدفأة الفحم، تعال، واعثر عليّ
كانت تلك كلمات التوبيخ الأخيرة، لم يلحق بها
بل ظل جالساً يحرس ميدان المعركة
خلف عتبة الباب زهورها الأقحوان،
الهزيلة، الذابلة، المقطوعة الرأس.
تعد الشاعرة سيلفيا بلاث نموذجاً شعرياً عالمياً يبحث في الوجود وغاياته، وذلك من خلال الغوص في أعماق الروح الإنسانية الذاتية والوجدانية، وقد اتبعت نصيحة الأساتذة في إحدى الدورات التي اتبعتها في أن تبحث في عمق ذاتها لتصل إلى ذروة الشعر والإحساس، ونحن بحاجة لقراءة مثل هذا الشعر لمعرفة المخزون الفكري الذي حرّك المياه الراكدة، وذلك في تأكيد لما قاله الناقد العربي الكبير شاكر مصطفى قبل سبعين عاماً: إن أدبنا يعاني من ضحالة المحيط العاجز عن صنع أدب وأدباء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن