قضايا وآراء

هل يكون هو الآخر مؤشراً استباقياً؟

| عبد المنعم علي عيسى

يشير قصر المدة الفاصلة ما بين تأسيس حركة طالبان الأفغانية وبين وصولها إلى السلطة في كابول إلى دلالات عدة داخلية وخارجية في آن، وما بينهما رزمة من العوامل التي فرضتها عوامل الجغرافيا الراسمة للمشهد والمرخية بظلالها الثقيلة على حركة التاريخ الأفغاني الذي يمكن اختصاره بالعصيان والتمرد مع تسجيل ظاهرة صارخة تبرز من بين الشقوق وتتمثل بضعف كبير لتأثير الخارج، وبالنتيجة كانت مخلفات تلك العوامل قد أفضت إلى نسيج منغلق على ذاته الجماعية حتى بدا غير عابئ بالكثير مما يجري من حوله في محيطيه الأقرب فالأبعد.
كان الصعود الصاروخي لحركة طالبان التي ولدت ربيع العام 1994، ولم يفصل جنينها عن الوصول إلى السلطة في كابول خريف العام 1996 أكثر من ثلاثين شهراً، تعبيراً عن حالة احتياج داخلية نتجت بفعل رسو اضطراب أمني متفلت من كل الضوابط اللازمة لاستقرار حركة المجتمع الذي كان قد مضى على دخوله في أتون الحرب عقدان من الزمن، وكذا لنظيرة خارجية لها برزت في ضرورة قيام سلطة قادرة على تأمين خطوط النفط وتسهيل عمليات التبادل التجاري بين جمهوريات آسيا الوسطى عبوراً إلى باكستان، حيث ستمثل هذي الأخيرة الداعم والمستفيد الأول من قيام سلطة طالبان في كابول التي استطاعت سريعاً بسط سيطرتها على الجزء الأكبر من الجغرافيا الأفغانية في شهر أيلول من العام 1996 باستثناء الجزء الشمالي الشرقي من البلاد الذي أضحى مقراً للرئيس برهان الدين رباني بعد هروبه إليه مع احتفاظه باعتراف الأمم المتحدة بشرعية حكومته الأمر الذي لم يشكل ثقلاً مهماً في مجريات الأحداث قياساً إلى اعتراف المملكة السعودية والإمارات العربية إضافة لباكستان بشرعية حكومة طالبان، ومن وراء الجميع كانت الإيماءة الأميركية الداعمة لهؤلاء، فواشنطن التي تقاطعت مصالحها في تلك اللحظة مع مصالح الحركة لم تمانع في ظهورها بل ولا في بسط سيطرتها على القرار الأفغاني.
قام نسيج طالبان على عصبية قومية تشد أزرها بقبائل البشتون التي شكلت أقل قليلاً من نصف اللوحة الديموغرفية للبلاد، أما الإيديولوجيا فكانت مستمدة بشكل أساسي من المذهب الحنفي، لكن مع إضافات عدة أظهرت تشدداً في تفاسير الكثير من النصوص والأحاديث كبروز واضح لتأثرها بالمدرسة الديوبندية الوليدة في الهند، وهي المدرسة التي تبنت تفاسير فريدة للنص القرآني وللحديث ومعهما فهم مختلف للسيرة النبوية، وفي الخط السياسي للحركة كانت بصمات أسامة بن لادن طاغية في رسم ذلك المسار، فالحركة التي تبنت في بدايتها مشروع إقامة إمارة إسلامية والدفاع عنها تخلت عن ذلك المفهوم عبر ميل تيار وازن فيها نحو أفكار ابن لادن التي قالت آنذاك بوجوب أن يكون التفجير شمولياً ليمتد إلى الغرب، بل إلى رأس حربته الولايات المتحدة، وهو الميل الذي قاد نحو أحداث أيلول 2001 في نيويورك الذي أدخل الحركة، ومعها أفغانستان، في صدام مباشر مع القوة العظمى الجريحة آنذاك، لينتهي ذلك الصدام سريعاً بعد منازلة قصيرة بفقدان الحركة لسلطتها القائمة في تشرين الثاني من هذا العام الأخير، الأمر الذي شكل إيذاناً ببدء مسار جديد للصراع امتد لثمانية عشر عاماً كان هو الأطول في تاريخ الحروب الخارجية التي خاضتها الولايات المتحدة منذ ولادتها.
لم يحظ الاتفاق الذي أبرمته واشنطن مع حركة طالبان في 29 شباط الماضي في الدوحة بالاهتمام الذي يستحقه، فالحدث كبير وهو يحمل العديد من المؤشرات الدالة على كثير من المعاني حتى في بنوده المعلنة، والتي من المرجح أن يكون لها نظيرة سرية لن تتكشف قريباً، إلا إذا شاءت الأقدار أن يكون لها رأي آخر.
أبرز ما يمكن التوقف عنده في ذلك الاتفاق هو البند المتعلق بانسحاب القوات الأميركية في غضون 14 شهراً، وأياً تكن السياقات التي جاء فيها هذا الأخير إلا أنه يعني هزيمة أميركية بكل المقاييس، بل إن طعم مرارتها من السهل تلمسه في تصريح لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الذي قال في حفل التوقيع على ذلك الاتفاق: «أعلم أنه سيكون هناك إغواء لإعلان النصر»، ومن المؤكد أنه ستكون لذلك الاتفاق تداعيات كبرى على امتداد «الفالق» الممتد من باكستان حتى المغرب العربي مروراً بعشرات الدول الواقعة على خط زلزال واحد.
اضطر البريطانيون للانسحاب من أفغانستان في العام 1919 ليعلن الأمير أمان اللـه خان استقلال بلاده عن النفوذ البريطاني في ذلك العام، كان ذلك نذيراً مبكراً لترهل الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس تمهيداً لأفولها عنها في العام 1956، وفي العام 1989 اضطر السوفييت للانسحاب من أفغانستان بعد عقد من دخولهم إليها كنذير قريب لذلك السقوط المدوي الذي حدث بعد عامين من ذلك الانسحاب، فهل يكون الانسحاب الأميركي، الذي قال دونالد ترامب إنه سيكون فورياً ما بعد توقيع اتفاق الدوحة نذيراً، استباقياً أو قريباً، لحدث شبيه بذينك الحدثين السابقين، فيكون بداية لأفول شمس الأميركيين التي تقلصت «أنوارها» مؤخراً إلى حدود بعيدة؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن