ثقافة وفن

ماري… حضارة سورية يعيش التاريخ في أروقتها

| د. رحيم هادي الشمخي

تعدّ مملكة ماري السورية على نهر الفرات من الحضارات التاريخية القديمة في سورية، كما احتلت هذه المملكة الموقع الرئيس في الحضارات المجاورة، وكعاصمة للسلالة العاشرة بعد الطوفان.
بنيّت ماري على بعد 2كم من نهر الفرات في عام 2900 ق. م، وقد اكتشفت هذه المملكة عن طريق المصادفة تماماً، كما اكتشفت (دورا أوروبوس) التي عثر عليها جنود كانوا يحفرون قبراً لأحد موتاهم في منطقة (تل الحريري) قرب نحو 10كم في الشمال الغربي من مدينة البوكمال قريباً من الحدود السورية- العراقية الراهنة، وبدأ التنقيب الذي قاده الباحث الفرنسي (أندريه بارو) عام 1933م، ليكشف في أواخر السبعينيات أنه وجد أخيراً لغز ماري، ويذكر المؤرخون والباحثون أن ماري كانت ميناء شهيراً على نهر الفرات الذي منحها مكانة تجارية ضخمة أسست لقيام مجتمع مدني حضاري متطور.
إن التاريخ يذكر أن ماري كانت عاصمة السلاسة العاشرة، ويتحدث عن علاقات مهمة بين ماري وعدد من الممالك حولها مثل (لكش، ايسن، أورك، بابل، إيبلا ويمحاض) وتعد ماري من المدن التجارية ذات الموقع الجغرافي الممتاز، وقد خضعت للأكاديين وكان يديرها أحد شيوخها ويعاونه قائد عسكري (أكادي) ولقبه (شاكن) ومهما يكن من الأمر فهو لقب أصحاب السلطة في ماري الذي يعادل لقب ملك، إلى جانب ذلك تميزت مملكة ماري بحركة تجارية وصناعية كبيرة، وظهرت فيها الفنون ونقوش الأختام والعمارة وبناء القصور الفخمة والمعابد، كما تم اكتشاف المخطوطات والوثائق التي تدل على مدى الرقي والتطور الذي ساد المملكة، ولا ننسى جمعيات الفقراء التي قدمتها وثائق مملكة ماري.
وفي مجال الحرف الصناعية فقد أظهرت الوثائق التاريخية في ماري العديد من أنواع المواد الغذائية والتجميلية التي كانت تُصدّر إلى آشور والممالك المجاورة عبر سورية، وخاصة المواد الزراعية، كما ولدت في هذه المملكة مجموعة كبيرة من المفردات العربية ومفردات من العامية العراقية وبلاد الشام، وهي مستقاة من الأكادية والبابلية والآشورية والسومرية القديمة التي كانت سائدة في بلاد وادي الرافدين، وإن تلك المفردات في ماري تلفظ اليوم بصورة قريبة من اللفظ القديم، ويتضح من ذلك أن هذه العلاقة بين العراق والشام أثرت على الوجود الحضاري للمملكة ماري، ولقد أظهرت التنقيبات في ماري مثلاً لسرد شعراء وأدباء (ماري) لنصوص سومرية، إضافة إلى اللغة الأكادية التي ورثت السومرية وهي لغة العراقيين العظمى خلال أكثر من ألفي عام، وقد تكلموها بلهجتي بابل وآشور، وهذا ما ينطبق على استمرار العلاقة الأكادية بين ثقافة ماري على نهر الفرات والثقافات المجاورة.
وقد أثبتت الحفريات عملياً في كل مكان على أرضية الهندسة والبناء المعماري والديكور والغرف المشيدة للاحتفالات، كما نظمت وحدات معمارية مغطاة، وهو ابتكار جدي، وقد كشف التنقيب عن العصر الكبير في العمورية الألفية الحادية عشرة من خلال المحفوظات والمعدات أي القلب السياسي والإداري في بلاد وادي الرافدين، كما أن نوعية القصر قبل سقوط ماري كان جميلاً بهندسته المعمارية والأسس الثرية التي كانت هناك، وقد دلت المكتشفات على وجود الآلات الموسيقية الوترية والإيقاعية والهوائية، ومن أهمها القيثارة ذات الأوتار التسعة، كما تكونت أول فرقة موسيقية سورية، ما أسهم في ظهور مرحلة جديدة من مراحل تطور الموسيقا وظهور الفرق الموسيقية والنوتات.
وقد كشفت الأعمال الأثرية في مملكة ماري عن تمثال لمغنيين مثل (يجالس، وإيبلول، وأرنينا الكبرى)، وذكرت نصوص عثر عليها في إيبلا، تل مرديخ، وهي تعود لنفس حقبة ماري في الألف الثالث قبل الميلاد، أسماء مغنين من الكبار والصغار، وفي أوغاريت، إضافة إلى أنشودة الابتهال الأوغاريتية حيث هناك النص الآتي:
(غني إكراماً لبعل وراح ارتجل ويشدو الصنجان في يدي البطل ذي الصوت الجميل يشدو إكراماً لبعل).

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن