ثقافة وفن

البطالة والعامل النفسي لها

| غالية اسعيّد

حدثني عن العمل لأعرف لك الإنسان، جوهر الحياة، ومحور الوجود، وبه قال شكسبير: «العمل فصاحة». وأيد قوله سيغموند فرويد: «الحب والعمل عماد البشرية». والأصدق منها جميعاً يقول اللـه تعالى: «وَقُل اعملوا فسيرى اللـه عملكُم ورسولهُ والمؤمنون وستردُّون إلى عالم الغيب والشَّهادة».
أن يكون لك هدف تسعى إليه وتعمل للوصول إليه، شعور جميل أليس كذلك؟ قد يلمسك هذا الكلام إن كنت من هؤلاء الذين التمسوا هذا الإحساس وعاشوا هذه التجربة الممتعة في مضمار الحياة، ولكن؟
على الوجه الآخر من الحياة هناك من لم يتذوق هذا الإحساس الذين سبق أن ذكرناه عن النجاح وتحقيق الأحلام والعمل، هناك من يعيش في كنف شبح مرعب اسمه البطالة… وللأسف.
ترى ما الكلمة المكونة من حروف بسيطة ولكنها كافية لإنهاء أحلام كبيرة، كلمة قد تعلن بداية النهاية، ومرادفها قد يعلن بداية الوجود.
قد يبدو للوهلة الأولى أن تعريف العاطل عن العمل بأنه من لا يعمل، هو التعريف الصحيح، ولكن الحقيقة هو أن التعريف غير كاف وغير دقيق، فليس كل من لا يعمل يعتبر عاطلاً، كما أنه ليس كل من يبحث عن عمل يعتبر أيضاً عاطلاً، فدائرة من لا يعملون تعتبر أكبر بكثير من دائرة العاطلين.
عرّفت منظمة العمل الدولية البطالة بأنها حالة الفرد القادر، والراغب، والباحث عن العمل دون جدوى العثور على الفرصة المُناسبة، ولا الأجر المطلوب.
عن كل ما سبق قد يكون نوعاً ما معرفاً للبطالة من الناحية العلمية والعملية ولكن؟ هل سبق أن عرفنا ما تفعله البطالة من الجوانب النفسية والاجتماعية؟
إن من أهم آثار البطالة أنها من أكثر التحديات التي تواجه المجتمعات في وقتنا الحالي، إضافة للآثار السيئة المنعكسة على المجتمع بفعلها، ومن أهم آثارها:
الزيادة الكبيرة في معدلات الجرائم كجرائم السرقة والسطو، إضافة لاستخدام العنف في ذلك، نظراً للشعور بعدم القبول في المجتمع.
الإقبال الكبير على الهجرة خارج البلاد نظراً للظروف الصعبة.
اختلال التفاعلات والعلاقات الاجتماعيّة بين الأشخاص، كما تقل المبادرة نحو القيام بأعمال جديدة كتطوّعية مثلاً.
فقدان أفراد المجتمع لمهاراتهم نظراً لعدم ممارستهم العمل لفترة طويلة، الأمر الذي ينعكس سلباً في إحجام أرباب العمل عن توظيفهم.
ومن آثارها على الفرد أنها أضرار خطيرة وطويلة الأمد، تكاد تكون دائمة ومن أبرزها ما أظهرته الدراسات أن العاطلين عن العمل يتوفون أسرع من أقرانهم العاملين، بمعدل أقل من نحو السنة.
زيادة الاكتئاب والأمراض الصحيّة.
الخسارة الكبيرة في الدخل.
فقدان المهارات.
فقدان الأصدقاء.
فقدان الثقة بالنفس، وانعدام احترام الذات.
وإضافة لذلك الانحرافات الفكرية وانتشار الشعور بالحقد والبغضاء نحو الطبقات التي تحيا في بحبوحة من العيش، وما هو جدير بالذكر أنه كلما طالت فترة التعطل، صار ضررها جسيماً حيث تؤثر تأثيراً سلبياً على المواهب الفنية والعقلية للعامل فتضمحل مهاراته بل يفقد الإنسان ميزة اعتياد العمل وإتقانه وينحط مستواه.
وما يصاحبها من مشكلات اجتماعية وضغوطات اقتصادية على إصابة أغلبية الشباب المتعطل عن العمل بحالة من الإحباط الشديد المزمن وحالة من عدم الثقة بالنفس وخاصة لدى الشباب من حملة الشهادات المتوسطة والجامعية، ما يدفعهم هذا الشعور إلى التفكير جدياً بالانتقام من المجتمع الذي يرفض منحهم فرصة العيش الكريم، وتحسين أوضاعهم الاجتماعية، وتحقيق ذواتهم وتجسيد طموحاتهم من خلال تحصنهم بالعمل وأيضاً يدفعهم هذا الشعور إلى التفكير جدياً بالهجرة إلى مجتمعات أخرى.
جاكسون براون: يقول «جد عملاً تحبه وسوف تضيف 5 أيام إلى كل أسبوع في حياتك» مقولة تستحق وقوفك.
وفيه على الجانب النفسي خاصة: تؤدي حالة البطالة عند الفرد إلى التعرض لكثير من مظاهر عدم التوافق النفسي والاجتماعي، إضافة إلى أن كثيراً من العاطلين عن العمل يتصفون بحالات من الاضطرابات النفسية والشخصية فمثلاً يتسم كثير من العاطلين بعدم السعادة وعدم الرضا والشعور بالعجز وعدم الكفاءة ما يؤدي إلى اعتلال في الصحة النفسية كما ثبت أن العاطلين عن العمل تركوا مقاعد الدراسة بهدف الحصول على عمل ثم لم يتمكنوا من ذلك يغلب عليهم الاتصاف بحالة من البؤس والعجز.
ويعد من أهم مظاهر الاعتلال النفسي التي قد يصاب بها العاطلون عن العمل:
الاكتئاب: تظهر حالة الاكتئاب بنسبة أكبر لدى العاطلين عن العمل مقارنة بأولئك الذين يلتزمون بأداء أعمال ثابتة، وتتفاقم حالة الاكتئاب باستمرار وجود حالة البطالة عند الفرد وهو الأمر الذي يؤدي إلى الانعزالية والانسحاب نحو الذات، وتؤدي حالة الانعزال هذه إلى قيام الفرد العاطل بالبحث عن وسائل بديلة تعينه على الخروج من معايشة واقعه المؤلم وكثيراً ما تتمثل هذه الوسائل في تعاطي المخدرات أو الانتحار، وهنا ما يقوله إني فرانك: «قد تبدو البطالة جذابة لكن العمل هو ما يقنعك».
تدني اعتبار الذات: يخلق العمل لدى الإنسان روابط الانتماء الاجتماعي ما يبعث نوعاً من الإحساس والشعور بالمسؤولية ويرتبط هذا الإحساس بسعي الفرد نحو تحقيق ذاته من خلال العمل، وعلى عكس ذلك فإن البطالة تؤدي بالفرد إلى حالة من العجز والضجر وعدم الرضا ما ينتج عنه حالة من الشعور بتدني الذات وعدم احترامها قد تجد هذا المعنى في قول جورج برنارد شو: «كلما عملت أكثر، عشت أكثر».
في نهاية هذه السطور قد نجد ألماً مريراً جداً يعيشه قسم كبير من المجتمع ولكن بصمت مطبق.
فمن حقنا على أنفسنا وحق الآخرين علينا أن نكون سنداً وعوناً في مساعدة أنفسنا وغيرنا.
توماس جفرسون يقول فيه: «أنا من أشد المؤمنين بالحظ، وقد لاحظت أن حظي يزداد كلما زاد عملي».
فالعمل حق مثله مثل الحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن