قضايا وآراء

عند المسافة صفر

| عبد المنعم علي عيسى

كانت المناخات التي استولدتها الأيام القليلة التي سبقت لقاء موسكو الذي جمع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان يوم الخميس الماضي راسمة بدرجة كبيرة للنتائج التي أفضى إليها ذلك اللقاء، فتقارير الميدان كانت تشي بإمكان التفلت من عوامل الضبط التي بدت في العديد من اللحظات وكأنها مهددة بالعطب، أو أنها غير قادرة على أداء عملها كما هو منوط بها، وفي الغضون كان مؤشر سهم «الناتو» الذي يرصد حركته صعوداً وهبوطاً يبدي تراجعاً كبيراً فاق كل التوقعات التركية في القيعان التي انحدر إليها، في مؤشر يوحي بميل أميركي إلى تدفيع أنقرة فواتير قديمة لم تطوَ تماماً ولكنها كانت تنتظر لحظة احتياج الأخيرة لبراءة ذمة من الكوة الأميركية بدت في تلك اللحظة ملحة لسير الأولى قدماً في مشروعها، أما الرهان على القارة العجوز واستفزازها عبر الدفع بموجات اللاجئين فقد بدا وكأنه نفخ في قربة مثقوبة، أو أنه رهان على محرك لا يمتلك أدوات نقل الحركة، إلا أن سيطرة الجيش العربي السوري على سراقب من جديد في 2 آذار الجاري، أي قبل ثلاثة أيام من لقاء موسكو، كان قد جعل المواجهة عند المسافة صفر في ذلك اللقاء.
متأخراً فهم الرئيس التركي أن محطات أستانا وسوتشي لم تكن أكثر من استراحة كانت مهمة لعملية ترتيب الأوراق التي تلعب فيها حقائق الميدان وخرائط السيطرة دوراً حاكماً، وهي، أي تلك المحطات، كانت تشبه بذلك إلى حد بعيد استراحة حمص التي يؤمها المسافرون في طريقهم من حلب أو اللاذقية إلى دمشق لأخذ قسط من الراحة ومن ثم متابعة المسير، والمؤكد هو أن تفاهم موسكو الذي أطلق عليه اسم «البروتوكول الإضافي لمذكرة استقرار الوضع في منطقة خفض التصعيد بإدلب» لا يخرج عن السياقات السابقة، وهو أقرب لأن يكون استراحة جديدة في «دير عطية» مثلاً اقتضتها ظروف الرحلة الاستثنائية، وسيكتشف أردوغان متأخراً أيضاً أن «المن والسلوى» الذي ذاقه في «درع الفرات» و«غصن الزيتون» بات ممزوجاً اليوم بالسم في «درع الربيع» التي أطلقها مطلع آذار الجاري، مع إبقاء مؤقت لطعم «المن» في «نبع السلام» تساوقاً مع إدراك «الطاهي» لحقيقة أن المرار إذا ما جاء دفعة واحدة فإن نتائجه قد تفقد المتذوق الحاسة التي تمكنه من تحديد الطعم، والمؤكد أن الإبقاء على هذي الأخيرة لدى الأول لا تزال لازمة إلى الآن.
في المجمل مثّـل تفاهم موسكو في إطاره العام مكاسب بالجملة على الضفتين السورية والروسية قابلتها على الضفة التركية خسائر تتحدد أسعارها فقط في سوق «جملة الجملة»، وهو بالتأكيد يمثل انكساراً لشوكة هذا «البالون المنفوخ» التركي، الأمر الذي ستكون له تداعياته المهمة في القفزة الرابعة المرتقبة لاستعادة إدلب إلى حضن السيادة الوطنية، بعد قفزات ثلاث كانت أولاها في آذار 2018 تلتها الثانية في مطلع عام 2019، أما الثالثة فقد بدأت في كانون الأول من هذا العام الأخير والتي توقفت افتراضياً مع الدقيقة الأولى من فجر يوم الجمعة الماضي عند خطوط التماس الراهنة، ما عنى تراجعاً كبيراً في المشروع التركي الرامي إلى إقامة مديدة إن لم يكن ساعياً إلى استيطان على غرار ما فعله في الشمال القبرصي منذ بدء عملية «اتيلا» في عام 1974 والتي لا تزال مستمرة إلى الآن.
الإتفاق مهم، لكن تكوينه الجيني يوحي بأنه لن يعمر طويلاً، قياساً إلى الأفخاخ العديدة التي احتواها عند الولادة، ولعل أبرزها هو التأكيد على وحدة وسلامة الأراضي السورية، ما يضع الوجود التركي برمته على تلك الأراضي على المحك، مع تسجيل نقطة مهمة هنا هي أن الاتفاق الأخير لم يشر إلى ذلك الوجود بوصفه مؤقتاً، كما هو الحال في اتفاق سوتشي أيلول 2018، وهذا إذا ما ربط بالتأكيد الأول يمكن الجزم بالقول: إن ذلك الوجود سيخضع لمقايضات في ملفات عدة لربما تفضي في شقها السوري إلى توسعة اتفاق أضنة 1998، وخصوصاً بعد إعلان الاتحاد الأوروبي بأن قدراته لا تصل إلى حدود إمكان فرض منطقة حظر جوي في شمال سورية رداً على مطالبة أنقرة الممزوجة بتهديدات المزيد من موجات اللاجئين ما يفسر قرار أردوغان بوقفها يوم الجمعة الماضي ومنها، أي من تلك الأفخاخ، التأكيد على مكافحة الإرهاب ما يتيح الفرصة لدمشق لاستئناف المعارك في أي لحظة رداً على استفزازات الفصائل المتشددة، والتي لا شك أنها آتية لا محالة، انطلاقاً من أن تلك الفصائل ستجد نفسها أمام تحد وجودي يتهدد كياناتها، ناهيك عن غموض لف العديد من النقاط مثل غياب الآليات التي ستعتمد لمراقبة وقف إطلاق النار، ثم أن العديد من بنود الاتفاق جاء بلون «حمّال أوجه»، بمعنى أنه يحتمل تفسيرات مختلفة يمكن أن تعتمدها أطراف الصراع قياساً إلى اختلاف الرؤى والأهداف، وكل ذلك داعم بشكل مؤكد لصفة المؤقت سابقة الذكر التي أرادها الروس صفة ملازمة لذاك الاتفاق.
يمكن النظر إلى حالة عدم الرضا التي قابلت بها واشنطن «تفاهم موسكو» الأخير بشأن إدلب على أنها افتراق جديد، ومهم، على الطريق الموصل بين أنقرة وواشنطن المملوء أصلاً بالإفتراقات المتراكمة منذ تموز 2016، وهو، أي هذا الافتراق الأخير، من شأنه أن يكرس تعزيز القبضة الروسية على أنقرة التي تشعر الآن بضيق هامش المناورة لديها، الأمر الذي سيدفع بالتأكيد إلى مزيد من ارتمائها في حضن الدب الروسي الذي سيعمل على نزع كل المنغصات التي يمكن لها أن تعوق تلك العملية.
كان إطلاق عملية «درع الربيع» التركية خطأً إستراتيجياً فادحاً، وهو بكل الأحوال يشير إلى اختناقات كبرى في السياسات التي تعتمدها أنقرة تجاه الأزمة السورية، وكذا يشير إلى وضع مأزوم تعيشه تلك السياسات في مقاربتها للوضعين الداخلي والخارجي التركيين، فأي عمل عسكري، أياً تكن نتائجه التي يمكن أن يصل إليها، يصبح بلا قيمة تذكر ما لم يكن بالإمكان ترجمة نتائجه إلى مكاسب سياسية، وبهذا المقياس فإن «درع الربيع» كانت قد وسعت جبهات المعارضة الإقليمية والدولية في مواجهة أنقرة، ولربما يمكن القول: إن تلك العملية ستدفع نحو ولادة محور إقليمي مناهض بقوة للدور التركي، يمكن لحظه مؤخراً عبر جنين برز في تقارب دمشق الأخير مع «ليبيا خليفة حفتر» الذي ما كان له أن يحدث لولا ضوء أخضر مصري سعودي إماراتي وهو مدعوم برافع جهد روسي أيضاً، وهذا كله سيكون شديد التأثير بالتوازنات الداخلية في تركيا التي باتت من الهشاشة حيث يمكن القول: إن موسكو باتت اليوم الرافعة الكبرى لبقاء نظام أردوغان في سدة السلطة.
أخطر ما في تفاهم موسكو بالنسبة لأردوغان هو أنه أبقى المواجهة عند المسافة صفر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن