ثقافة وفن

الجزيرة السورية الاستيطان البشري الأول … تل برسيب أقدم لوحة فسيفساء في العالم

| المهندس علي المبيض

قامت على أرضها أقدم الحضارات في تاريخ البشرية وتعاقبت عليها العديد من الممالك وامتازت بموروث ثقافي ثري ومشوق لكونه يروي قصص الماضي لأكثر من 3000 موقع أثري و30 حضارة. إنها سورية التي تمتد جذورها عميقاً في التاريخ فقد دلت المكتشفات التي تم العثور عليها خلال عمليات التنقيب التي تمت في كل المناطق السورية على أهمية الحضارات القديمة في سورية وأهمية هذه المنطقة كصلة وصل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب وكمركز اقتصادي وثقافي وتجاري مهم، وأكثر ما يميز الحضارة السورية القديمة هو تنوعها وتعداد تلك الحضارات التي قامت عليها.

وعلى سبيل المثال تضم منطقة الجزيرة العليا السورية العديد من المواقع الأثرية المهمة وأكثر من 2000 تل مثل طنبرة وتل المريبط وتل العبد وتل الفري وتل ممباقة وتل الشيخ حسن وموقع عناب السفينة ودبسي فرج وأبي هريرة وغيرها الكثير، وهذا العدد الكبير من التلال والمواقع الأثرية يعكس الأهمية التاريخية لتلك المنطقة، ويؤكد على غنى هذه المنطقة بالآثار المتنوعة التي تعود إلى سويات تاريخية مختلفة، وتدل على تعدد وتنوع الحضارات والممالك التي تعاقبت عليها، تنبض حجارتها بعبق الحضارات التي مرت واستقرت فيها، والذي يدعونا للاعتزاز بتاريخنا المشرّف وعلى مر العصور أنه وعلى الرغم مما شهدته هذه المنطقة من حروب وغزوات لكونها كانت مطمعاً للكثير من الممالك المجاورة نتيجة موقعها الإستراتيجي إضافة إلى التخريب الناتج عن عوامل طبيعية من فعل نهر الفرات الذي يخترقها إلا أنها مازالت صامدة، ونستكمل الحديث عن التلال الأثرية في منطقة الجزيرة السورية.
تل برسيب أو تل أحمر: يقع تل برسيب في شمال سورية على الضفة الشرقية لنهر الفرات عند مصب نهر الساجور، ويبعد عن مدينة جرابلس نحو 20 كم من الجهة الجنوبية كما يبعد نحو 10 كم إلى الشمال من جسر قره قوزاق الذي يبعد بدوره مسافة 110 كم شمال شرق حلب. تتوضع القرية الحالية التي تعرف باسم تل أحمر في الجزء الجنوبي من التل على حين يرتفع التل الأثري عند حافة السهل الفيضي لنهر الفرات وهو السهل الذي غمر بمياه بحيرة سد تشرين ويعود تاريخ تل أحمر أو تل برسيب إلى نهاية الألف الخامس قبل الميلاد. أظهرت المكتشفات الأثرية أن الموقع كان مسكوناً منذ العصر الحجري الحديث واستمر الاستيطان فيه حتى العصر البرونزي القديم كما دلت على ذلك المقبرة وكميات كبيرة من الفخار التي تم اكتشافها في الموقع. عرفت المنطقة في عصر العمارنة أي في القرن الرابع عشر قبل الميلاد بأرض أشتاتا حيث كانت تتبع لـ كركميش الخاضعة للحثيين، كما ورد اسم تل برسيب في النصوص الآشورية لمدينة وجدت على تل أحمر على حين تشير نصوص الدولة الحثية الحديثة المكتشفة في تل أحمر والمدونة باللغة اللوفية إلى أن الحثيين كانوا يطلقون اسم ماسوراي على هذه المدينة ويعني المنطقة الحدودية، وتل برسيب هو اسم آرامي إذ إن أول ذكر لموقع تل برسيب يعود لفترة الملك الآشوري شلمنصّر الثالث 858 – 823 قبل الميلاد وهو أحد مؤسسي الإمبراطورية الآشورية، وكان الموقع خلال هذه الفترة عاصمة لأكبر مملكة آرامية في شمال سورية وهي مملكة بيت عديني الآرامية التي بسطت نفوذها على ضفتي الفرات، وهو ما يفسر الضغط والهجوم العسكري المستمر عليها من ملوك آشور منذ أواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد لأنها كانت بالنسبة للآشوريين المدخل الرئيسي للشمال السوري، وكان هذا الملك يسعى لتحويل سورية بأكملها إلى جزء ثابت من الإمبراطورية الآشورية والقضاء على كل المناوئين له وذلك للسيطرة على طرق التجارة الممتدة من بلاد الرافدين إلى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وكان قد أخفق في المرة الأولى ببسط سيطرته على تل برسيب إلا أنه تمكن من ذلك في المحاولة الثانية عام 856 قبل الميلاد وحولها إلى ولاية محلية تتبع للإمبراطورية الآشورية، وعمد إلى بناء القصور وتغيير الاسم من تل برسيب إلى كارشولمانو أشاريدو ثم غيّر الاسم إلى كار شلمنصر التي تعني قلعة شلمنصر وأسكن فيها آشوريين، وبقي اسم برسيبا متداولاً خلال العصر الروماني حيث ظهر خلال فترة الإمبراطور جوليان (331 – 363م) أثناء عبور جيشه من أنطاكية إلى نهر الفرات، ثم استولى عليها الحثيون فيما بعد حيث عثر على الكثير من البقايا التي تعود للحثيين ولاسيما النقوش الكتابية التي تتشابه مع الهيروغليفية، وكانت المدينة مركزاً لعبادة إله العواصف والأمطار حدد أو أدد حسب المعتقدات التي كانت سائدة بين أبناء المنطقة في تلك الفترة وهو ذو سمات حثية متأخرة ويعود تاريخه للقرن العاشر والتاسع قبل الميلاد ويعرض حالياً في متحف اللوفر في باريس، واستمرت أهميتها في عهد الملك الآشوري سنحاريب وفي عهود خلفائه من الملوك الآشوريين، وتشير التنقيبات إلى أن أولى آثار الاستيطان في الموقع تعود إلى فترة العبيد التي تمتد خلال الفترة (5300 – 4000) قبل الميلاد كما يذهب بعض الباحثين إلى اعتباره أقدم نموذج لفن الفسيفساء في التاريخ والذي يعود للقرن التاسع قبل الميلاد.
في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد ازدادت أهمية المدينة بشكل واضح وتشير النقوش الملكية الآشورية إلى ازدهار صناعة القوارب في تلك الفترة، كما تم العثور على مجموعة من الأدلة تشير إلى أن مدينة تل برسيب كوّنت علاقات وعقدت اتفاقيات مع المدن المجاورة وشكّلت مع مدينتي عانه وحماة مثلثاً تجارياً ودبلوماسياً له علاقات متميزة مع بلاد الرافدين، بقي الموقع مأهولاً بعد الفترة الآشورية ثم هُجر بعد ذلك، ومع منتصف القرن التاسع عشر قبل الميلاد عاد الاستيطان إليه، كما أكتُشف في الموقع مجمّع معماري يعود إلى النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد ومجموعة من الغرف استخدمت كمكاتب إدارية ومخازن تعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد وكذلك وجد تمثال آشور.
يقع التل الأثري على تقاطع طرق التجارة في وسط سهل خصب وتأخذ المدينة الأثرية شكلاً نصف دائري يصل طول قطرها إلى نحو 1200م وبمساحة تقريبية نحو 600000 م2، وتقع على النهر مباشرة وقد قسم التل إلى ثلاثة أقسام التل الرئيسي أو القلعة والمدينة الوسطى وهي مرتفع طبيعي مسطح إلى الغرب من القلعة ومن ثم المدينة السفلى التي تشغل القسم الشمالي الأكبر، كما تم العثور على بقايا قصر الملك الآشوري شلمنصر الثالث والذي يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وضم القصر تمثالين كبيرين يمثلان الملك الآشوري «أسر حدون» منتصباً ولوحات بازلتية عليها نقوش وكتابات مسمارية تتحدث عن انتصارات الملك الآشوري شلمنصر الثالث وتخليدها بأثرٍ فني يمثل كل منها مشهداً يذكرنا بعادة تمجيد الفتوحات التي قام بها الملك الآشوري، وفي مقدمة القصر توجد آثار أسدين يحرسان بوابة القصر في الجهة الشرقية ونقش على الأسدين اسم القائد الآشوري شمسيلو واسم المدينة كار شلمنصر، وثمة أحجار ذات نقوش بارزة كانت تغطي أسفل الجدران عليها نقوش كتابية منها واحدة للملك الآشوري أسرحدون 680-669 قبل الميلاد وهناك لوحات تمثل مشاهد دينية وأسطورية وتاريخية، وتعود السويات الأثرية الواقعة تحت القصر إلى نهاية الألف الخامس قبل الميلاد، وتم طلاء القسم الأسفل من جدران القصور الملكية بلون واحد بدلاً من الألواح الحجرية المنحوتة التي كانت تزين عادة القسم الأسفل من الجدران، كما تم العثور على نقوش ورسومات تمثل مشهداً للصيد وقنص السباع غني بالألوان، كما تم زخرفة أعلى الجدران بلوحات رسوم جدارية تمثل عناصر هندسية ومشاهد استقبال الملك للأمراء الخاضعين له وصوراً لبعض أفراد حاشيته، وفي عام 2000 م تم العثور على لوحة جميلة مكوّنة من فسيفساء حصى نهرية تعود إلى القرن التاسع أو الثامن قبل الميلاد أي الفترة الآشورية.
تل بازي أو بازيرو هو تل أثري يقع على الضفة اليسرى لبحيرة تشرين وقد ذكر تل بازيرو في الحوليات الملكية الآشورية، كشفت التنقيبات الأثرية التي تمت فيه عن سويات تاريخية مهمة تعود إلى الألف الثاني والثالث قبل الميلاد، كما تم الكشف عن أحياء سكنية تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد والعثور على بقايا سور القلعة ومعبد يعتبر أكبر المعابد التي تعود لتلك الفترة حيث شكلت القلعة الجزء الأكبر من المدينة في تلك الفترة ويعود تاريخها إلى العصر البرونزي المبكر أي في الألف الثالث قبل الميلاد، في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد تم إضافة عدة مبان ضمن هضبة القلعة، وفي القرن الثالث عشر قبل الميلاد توسعت المدينة وازدهرت بشكل كبير وأصبحت مركزاً دينياً مهماً أطلق عليه اسم بازيرو وكان هذا المركز يدار من مجلس مكوّن من حكماء المدينة المتقدمين في السن، كما تم العثور على آثار رومانية إسلامية في قمة التل.
مستشار وزير السياحة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن