ثقافة وفن

(آه) المستمع هي الفيصلُ والحَكم … التطريب والسلطنة في الغناء متعة فنية روحية لا تُترجم

| جورج إبراهيم شويط

يقولون: أغنية طربية، ومطرب أصيل، يُطربُ ذوّاقة الفن والمغنى، ويحلق بهم، إلى حدّ الانتشاء الروحي، فينتزع منهم (الآه)، ربما، من حيث لا يدري ولا يدرون. وربّما، أيضاً، قد لا يكون لعمليةِ خلق أغنية (تُطرب وتُسلطن) تعريفٌ أو ترجمة، من مبدعي نوع كهذا من الأغاني، بدءاً من الشاعر، مروراً بالملحن، الذي يسكب عواطفه في النص الشعري، ووصولاً لصاحب الصوت الرخيم والإحساس الرفيع الذي يرتقي بالكلمة واللحن وبالصوت الشجي، إلى حالة عجيبة من الانسجام المدهش.

زياد عجان- ملحن ومؤلف موسيقي: السلطنة هي نوعٌ من الاندماج مع اللحن، تنتزع من المتلقي (الآه).
هناك 400 مقام، ولكل مقام طابع خاص، وحالة موسيقية أو طربية خاصة به، فمثلاً مقام الحجاز، فيه دفء وحنان، ومقام الصبا يتماهى فيه الحزن، أما النهوند، فهو مقام واسع الطيف، ويمكن أن يكون حزيناً، ويمكن أن يكون فرحاً. مقام الهزام، أو (البيات الشعبي) فهو مقام سلس، ويتلقاه المستمع بسرعة وعذوبة.
وغالباً ما تكون المقدّمات الموسيقية، في الأغاني الطويلة، تهيئة للمستمع، ليتلقف المقام، الذي تستند إليه الأغنية، مثل مقدّمة أغنية (الأطلال) لأم كلثوم، وهذه الأغنية من مقام (راحة الأرواح).
أغنية(رباعيات الخيام)، هي الأخرى أغنية بكلّ أبعادها وإمكاناتها، تعمل على سلطنة المستمع لها.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن الحبال الصوتية تختلف من شخص لآخر، والمساحة الصوتية تسهم في عملية التطريب، وكذلك امتلاك الطبقات الحادة، التي تصل إلى جواب الجواب.
أيضاً، ممّا يعطي حالة التطريب، وجودُ أكثر من مقام، في الأغنية الواحدة، لكن غالباً ما يكون مطلع الأغنية هو ما يعطي الاسم للمقام، الذي يتمّ تلحين الأغنية على أساسه.
ومن الأغاني التي تغنّى في اللاذقية، وفيها طرب، نذكر: (يا محلا الفسحة ياعيني) على مقام النهوند-(الدلعونة) على مقام البيات. أغنية (ليّا وليّا يا بنيّة) من مقام الصبا. ومن ناحية المساحات الصوتية، صباح فخري يمتلك في صوته 16 «أوكتاف»، والأوكتاف يساوي 8 درجات صوتية. أم كلثوم في صوتها أقل من 16 أوكتاف. وثمّة أصوات تسمّى أصواتاً مستعارة، أي صوت يتأتّى من الرأس، مثل فيروز، وماجدة الرومي، وهناك صوت رخيم، حيث يتضمّن عُرَبَاً صوتية وتموُّجاً ورخامةً، مثل أصوات: أم كلثوم- ليلى مراد- أسمهان- محمد خيري- صفوان بهلوان.
أمّا عمالقة اللحن الأصيل، الذين أغلبية ألحانهم تعطي حالة من السلطنة، فيقف في الصفّ الأول: (محمد القصبجي- رياض السنباطي- محمد عبد الوهاب)، يليهم زكريا أحمد. وفي الصفّ الثاني، تتصدّر أسماء: محمد فوزي- محمد الشريف ملحن (الله وأكبر)- وفريد الأطرش. فيما يأتي من الجيل الجديد، الذي يلي العمالقة الأوائل، أسماء: (كمال الطويل- محمد الموجي- منير مراد- وبليغ حمدي).
أم كلثوم: صوت رائع، طربي، شجي، وقد بقيت محافظة على صوتها، وهي في سنّ السبعين، حين حلقت عام 1966 بأغنية (الأطلال)، وهي في سنٍّ متأخرة. وعندما كبرت عمرياً، اتجهتْ لألحان بليغ حمدي، لكون ألحانه لا تحتاج إلى مقدرات صوتية كبيرة. وكانت أغنية ( من أجل عينيكَ عشقت الهوى) آخر ما غنّتْ.
عبد الحليم حافظ: أداؤه جيد، وفيه حنيّة، لكن صوته لا يُطرب. كما أنه يمتلك مساحة صوتية صغيرة، لا تساعد على التطريب. وكصوت، فهو لا يُقارن مثلاً، بكارم محمود.
شهرته جاءت من خلال تعامله مع ملحنين كبار، مثل (محمد عبد الوهاب- الموجي- كمال الطويل- منير مراد-السنباطي)، إضافة لتعاطف الناس معه ومع مرضه، ولسنوات طويلة، جعل أغانيه تصل للناس، من منطلق إنساني تعاطفي. وهنا نشير إلى أن صوت شقيقه (إسماعيل شبانة) أفضل من صوت عبد الحليم. وقد غنى إسماعيل شبانة بصوته، في فيلم عن حياة سيد درويش. وقد التقيت بعبد الحليم في برنامج تلفزيوني من إعدادي في مصر، عام 1964، وغنى حينها موشح زارني المحبوب. وهو إلى جانب الغناء، يجيد العزف على (الأوفوا) وهي آلة نفخية، فيها حنيّة.
محمد عبد الوهاب: في البدايات، كان معجزة، لكن صوته تغيّر فيما بعد، بسرعة هائلة. وربما يكون السبب يعود لحالة مرضية، أو لتقدُّمه بالعمر، وتراجُع مقدرة حباله الصوتية، التي ما عادتْ تساعده على الإجادة، في فترات عطائه الأخيرة.
إلا أنه يتميّز، عن كثير من الملحنين، أنه الوحيد الذي يجيد مختلفَ أنواع التأليف الغنائي والآلي، وإجادته لتلحين الدور والقصيدة والمونولوج والديالوغ. أما ملك المونولوج، من دون منازع، فهو محمد القصبجي، الذي لحّن (يا طيور) تغريد البلابل لأسمهان، لكن القصبجي لم يكن متميّزاً بتلحين الدور.
جورج وسوف: أعرفه منذ كان في مرحلة الطلائع، حيث كان يشارك مع الرواد، وينال المراكز الأولى. وكنت حينها في لجان التحكيم. صوت الوسوف رخيم، وله أذن موسيقية مرهفة، وإحساس عال، وهو يتحكم بصوته. أمّا عُرَبُهُ وقفلاته لأغنياته فهي أكثر من رائعة، وخاصة بأغنياته القديمة. بمعنى آخر، فصوت الوسوف (كامل ومكمّل) ويستحق لقب (سلطان الطرب).
وبعيداً من التطريب، ولكن من الناحية الإنسانية، نذكر أن فريد الأطرش ومحمد فوزي كانا من أهل الكرم، ويدُهُم ممدودة للجميع بسخاء، عكس محمد عبد الوهاب وأم كلثوم.
فايز فضول- مؤلف وباحث موسيقي: المستمع هو الناقد الأول. الطرب هو حالة من المتعة، لمن يحب الغناء ويُشغف به، ويدخل في حالة انسجام تام، بما يسمعه. ومتى لامست الأغنية شغافَ القلب والروح والدماغ، وتمدّدت المتعة في أرجاء الروح، فهنا يصل المستمع لمرحلة السلطنة.
السلطنة تأتي، بعد الانسجام التام، بالكلمة الراقية والصادقة، والتي تلامس الصوت الجهوري أو الطربي، وبمرافقة الموسيقا والأنغام، بحيث يحصل الانسجام الكامل. فيقولون: انسجم، يعني غاب، أو خرج إلى مرحلة فقدان اللحظة، في نشوة غريبة.
أيضاً هناك من تطربه الكلمة، وهناك من تطربه الموسيقا، والبعض الآخر يطربه الصوت. فالموسيقا واللحن والأداء تخرج من كونها للسلطنة والتطريب، لتشكل حالة من التعبير الجمالي، عن شعور وإحساس الفرد أو الجماعة، بحيث تنطلق تلك (الآه) من حناجر المستمعين.
ومن هنا نلمس أن العملية التطريبية، التي تؤدي إلى السلطنة، ترتبط بالنص الشعري، وبالموسيقا، وبالحنجرة، وما فيها من تكوين صوتي مخلوق، ومن عَرَبات صوتية.
للأسف، لم نعد نستمع في إذاعاتنا، اليوم، لذلك الطرب الأصيل، الذي كان يدغدغنا في الماضي. فلم تتكرر في زمننا الحاضر قاماتٌ كبيرة، كأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد وأسمهان وليلى مراد وكارم محمود ومحمد خيري وصباح فخري. ثمة مغنون يؤدون أغنيات، بآلات موسيقية غربية، وإيقاع غربي، ووزن سريع، كالديسكو، يشوّه تراثاً غنائياً راقياً، تركه لنا جيلٌ من العمالقة، من شعراء وملحنين ومطربين أصيلين، يقدّرون الفنَّ حقَّ قدره.
أيمن شكوحي- موسيقي- عضو نقابة الفنانين- (تنوب بصيرتُه الإبداعية عن بصرٍ فقدَهُ، ذات قدر):
ليست هناك مقامات تطرب وأخرى لا، ومن خلال تجربتي مع فرق موسيقية عديدة، فإن أغلبَ المقامات يمكن لها أن تطرب: الراست- البيات- النهوند- الحجاز.. وتعود عملية التجويد والتطريب، لحرفنةِ الملحن، في صوغ لحنه، ومقدرة المطرب على نقل جوهر الأغنية، بإحساس عالٍ، وصدق كامل. ولا يخفى هنا، أهمية ومدى التقاط المطرب، وهو يقف أمام الجمهور، بذكاء وحنكة، إلى ما يميل إلى سماعه، هذا الجمهور، من أول أو ثاني أو ثالث أغنية، أو موّال أو.. أيضاً هناك حالة (التقليب بالمقامات) ضمن المقطوعة التي يغنيها، كأن يدخل مثلاً من مقام الصبا، إلى مقام البيات، ثم يتحول إلى الراست، ثم يعود، بذكاء، إلى حيث بدأ الصبا. وهذه واحدة من مميزات التطريب، إضافة إلى أنه كلما اتسعت المساحة الصوتية، لدى المطرب، بين القرار والجواب، تتسع، حكماً، إمكانية المطرب، على الارتجال والتكتيك.
تطربني أصوات: أم كلثوم- محمد خيري- وردة- لطفي بوشناق- وديع الصافي- كارم محمود- عبدالله الرويشد- عليا التونسية_ وناظم الغزالي، الذي اعترفت أم كلثوم بقدراته الصوتية المميزة.
وكرأي شخصي وصادق، ففريد الأطرش، بعظمةِ ألحانه، لا يطربني، كذلك فيروز، رغم أنها تملك صوتاً ملائكياً، وتمتلك حنجرة نقية، لكنها لا تنتزع الآه، وهذا ليس تقليلاً، من كونها أيقونة كل الصباحات، ومن الملحنين الذين يجذبون الناس لألحانهم، إلى درجة التطريب، العملاق بليغ حمدي، بمعظم ألحانه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن