قضايا وآراء

أردوغان بين مطرقة الأصدقاء الأعداء وسندان الداخل الغاضب

| د. قحطان السيوفي

مشهد العراك بالأيدي في مجلس النواب التركي بين مؤيدي حزب العدالة والتنمية، وممثلي المعارضة التركية؛ يعكس بوضوح حالة الانقسام والارتباك التي تضرب تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، أسباب العراك؛ السجالات حول الخسائر البشرية التي مُني بها الجيش التركي في إدلب، واتهام الرئيس التركي بالتهاون وبالتسبب بها، حيث يعيش أردوغان مرحلة من الحرج والتخبط ومسؤوليته عن الخسائر التي لحقت بجيشه، ما اضطره للهرولة إلى موسكو لعقد قمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم 5 آذار 2020 عله ينقذ ما تبقى من ماء وجهه، والتوصل إلى وقف لإطلاق النار في إدلب.
أردوغان يعاني من مشكلات في الداخل ومع الخارج على حد سواء وهي في نهاية المطاف حصاد لسياسته. فأفعال الرجل المتهورة تراكمت بدءاً من إطاحته بسياسة «صفر مشكلات» التي اعتمدها حزب العدالة والتنمية في بداياته وحوّلها أردوغان إلى سياسة «صفر حلول». واندفع بحلم إحياء العثمانية التوسعية بشقيها القومي والإسلامي. فتدخّل في أكثر من دولة عربية عبر دعمه «الإخوان المسلمين»، وساهم في الانقسام الفلسطيني، وحافظ على أفضل العلاقات المباشرة وغير المباشرة مع إسرائيل، وسعى إلى الانفكاك النسبي عن الكتلة الأطلسية التي انتمت إليها تركيا عام 1952، وعمد إلى التقرب من روسيا وهي العدو اللدود التاريخي لتركيا، محاولاً التموضع في الخندق الإيراني الروسي. هذا اللعب على الحبال لم يكسبه ثقة الرئيس الروسي.
وعززت في الوقت عينه توّجس الغرب منه، فتوترت علاقته مع الاتحاد الأوروبي وأميركا، وبات يُنظر إليه كحليف غير موثوق به يعتمد سياسة استنفار العصبيات والاستفزاز والابتزاز إلى حد التلاعب اللاأخلاقي بملف اللاجئين السوريين.
وفي الداخل التركي، وإضافة إلى المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها تركيا، أدّت سياسة أردوغان إلى انشقاقات داخل حزبه بسبب رفض سياساته الهوجاء؛ التنكيل بالشخصيات المعارضة، أو اعتماد التعسف والاعتباطية في سجن الآلاف من العسكريين والقضاة والأكاديميين والإعلاميين، مقوِّضاً أسس الدولة المدنية التركية الحديثة.
ولعل أخطر أفعال أردوغان هي تصفية قيادات الجيش التركي وإضعافه، وقد ظهر ضعفه في إدلب.
لم تخرج القمة الروسية التركية إلا بوقف لإطلاق النار وتبدو ملامحه كاتفاق مؤقت. فروسيا لم ترمِ بثقلها في سورية لتتراجع اليوم، وستواصل العمل على دعم الجمهورية العربية السورية. أما تركيا المُربكة فإنها غير مستعدة للتصعيد مع موسكو، جراء الحال التي أوصل إليها أردوغان الجيش التركي، وتوتيره لعلاقات بلاده مع حلفائها التقليديين الأعضاء في الناتو من جهة أخرى، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة وقفت إلى جانب أردوغان في خسارته الأخيرة، لكنها اكتفت بدعمه بما يكفي للحد من خسارته لا للانتصار. وهي لن تغفر له التحاقه بمرجعية آستانة، كما صفقة الصواريخ مع روسيا بينما اختصرت أوروبا اهتمامها بأزمة إدلب وموضوع اللاجئين السوريين.
المشهد يشير إلى أن الجيش العربي السوري، في المستقبل غير البعيد، سيحرر كامل إدلب، ولن يتمكن أردوغان من إقامة المنطقة العازلة التي أرادها أن تضم القسم الأكبر من اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا. كل هذه التحديات ستحدث إرباكاً كبيراً في الداخل التركي يصعب تكهن نتائجه على مستقبل أردوغان السياسي.
حاول أردوغان حفظ بعض ماء الوجه عبر اتفاق موسكو لوقف إطلاق النار، بينما هو بالواقع إذعان وقبول على مضض بقوة التحالف الروسي السوري.
القيادي في الحزب الحاكم التركي رسول طوسون كشف أن ما تريده تركيا من قمة موسكو هو تأمين انسحاب الجيش العربي السوري إلى حدود اتفاقية سوتشي، وكبح روسيا لجماح قوات الدولة السورية. لم يتحقق أي من هذه المطالب، وبدا أردوغان كمن نصبَ كميناً لنفسه وصوَّب المسدس إلى رأسه، وأقصى ما وصل إليه اليوم هو تسوية مع موسكو، ترضية على شاكلة إشراكه بتسيير دوريات على الطرق الدولية، وتوفير حماية لنقاط المراقبة التركية على الأراضي السورية.
هذا في الواقع هزيمة لأردوغان، وانتصار كبير لروسيا وسورية.
في الأسبوع الماضي كتب جيمس ستافريدس، وهو قائد عسكري سابق لحلف الناتو وعميد كلية فليتشر للحقوق والدبلوماسية بجامعة تافتس، في «الفاينانشال» مقالاً بعنوان «تركيا حليف أطلسي مشاكس»، وقال: «عندما كنت القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي في المراحل الأولى من الحرب السورية، كانت الحدود التركية السورية الطويلة والضعيفة، من أبلغ مصادر القلق العميق بالنسبة لنا، وكانت تركيا قد اتخذت موقفاً معادياً للدولة السورية الشرعية منذ بداية الأزمة، ودعمت التنظيمات الإرهابية المسلحة، وقامت بنشر قواتها العسكرية في إدلب لاحقاً».
في حال حدوث مواجهة مباشرة بين روسيا وتركيا سيكون حلف الناتو في موقف مُحرج، بل سيكون حذراً جداً بسبب موقف تركيا المشاكس حسب المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو.
يحاول أردوغان السعي لفرض إستراتيجية عثمانية إخوانية في المنطقة. فهو يريد السيطرة على الحدود السورية بغية الحد من هجمات الأكراد من الجنوب، مع ممارسة النفوذ التركي عبر حدود الإمبراطورية العثمانية البائدة.
ولم يكن أردوغان من الحلفاء المثاليين للولايات المتحدة في سورية، وتبدى هذا من خلال شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية المتقدمة، والتهديد بإغلاق المنشآت التابعة لحلف شمال الأطلسي على الأراضي التركية، واستفزازات أخرى معروفة.
لو دققنا في موقف أردوغان تجاه قضية اللاجئين السوريين التي يستخدمها ورقة لابتزاز الأوروبيين لوجدنا أنها لا تختلف كثيراً عن النظرة الأخلاقية للإرهابي، وهذا يروّج أن قتل الآخرين من أخلاقه، فإن رد عليه العالم بالقوة، طالب العالم بأن يتعامل معه بـ«قيم العالم الإنسانية».
تركيا استخدمت اللاجئين السوريين ورقة ضغط، استدرجتهم إلى الحدود بينها وبين أوروبا وهي تعلم أن الطريق ستنقطع بهم. ثم عززت الإجراءات على حدودها لكي تمنعهم من العودة. أي إنها ارتكبت ثلاث جرائم وليس واحدة: الخداع، الاستغلال، ثم رفض الاستضافة. على حين لم تفعل أوروبا سوى «الجريمة» الأخيرة.
قضية اللاجئين السوريين من الأساس منبعها مؤامرة ومغامرة تركية في خوض حرب توسعية عبر الحدود، دعم من خلالها أردوغان التنظيمات الإرهابية.
أردوغان في سورية يحاول القول والادعاء أمام السوريين: أنا خليفة سليم الأول وحفيد عثمان. أما وقد فشلت المغامرة، فإنه يطالب الآخرين بأن يشاركوه الخسارة.
أردوغان يصرّح دائماً بأنه ينطلق مما سماه الإرث التاريخي للدولة العثمانية. أي الإرث الاستعماري، وأن أجداده غزوا بلداننا فصار لهم فيها حق.
أردوغان سياسي انتهازي يستخدم أوراقه كلها، يريد أن يشتت غضب ناخبيه عن عواقب سياساته، ويوجهه إلى الأوروبيين. في وقت يتحفز الأوروبيين ضد قضية الهجرة، وازداد ذلك مع الذعر من تفشي فيروس «كورونا». الموضوع تجاوز التجاذبات السياسية، والحواجز الحدودية، إلى غضب شعبي واسع.
افتتح أردوغان العثماني ما سماه مراكز حقوقية في أوروبا لخدمة أغراضه العثمانية. استغل اللاجئين السوريين الذين أوهمهم بأنه كبير الأمة، والآن يتاجر بهم في مراكز حقوق إنسان لا تعدو كونها مراكز أطماع حقوق أردوغان؟
حال الانقسام والارتباك التي تضرب تركيا ورئيسها أردوغان كحصاد لسياسته؛ جعلت هذا الأخير بين مطرقة الأصدقاء الأعداء وسندان الداخل الغاضب، وكمن نصبَ كميناً لنفسه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن