ثقافة وفن

المعلم في عيده… شكل من أشكال التقديس كرد جميل للدور الذي أسهم به

| جُمان بركات

حينما تبدأ قدما الطفل الصغير بارتياد أبواب المدرسة ومقاعد صفوفها، تبدأ رحلته الطويلة مع العلم والتعلم، سيكون بالطبع كيان متعدد الأسماء والأشكال قد دخل حياة الطفل وشارك أهله في عملية تربيته وتعليمه وتهيئته ليصبح رجل المستقبل الموعود، ولا تقف حدود هذه المشاركة عند التعليم فقط فهي عملية متكاملة مخططة ومرتبة لتوصل الابن إلى الغاية المرجوة وليحقق الهدف الذي يطمح إليه.
أصبح الأستاذ مرشداً ووصياً بطريقة ما على حياة الأبناء، يوجههم ويهذبهم ويعلمهم ويساعدهم في تخطي مشكلاتهم، فقد يعرف عنهم في بعض الجوانب ما لا يعرفه الأهل عن أبنائهم، ما يؤهله ليكون موجهاً نفسياً وتربوياً ومعرفياً وإدراكياً وحياتياً يتشاطر مع الأهل تكوين التلميذ وتوجيهه وتربيته بطريقة صحيحة تدعم بنيانه النفسي والعقلي والاجتماعي، فيضمن لنفسه مستقبلاً واعداً بكل ما يتمناه الأهل –والمعلم معهم- لأبنائهم من حياة ناجحة وعطاء يسهم في تعزيز بنية المجتمع وتطوره.
ومثلما يلتزم الابن بوفاء تجاه أهله وأسرته لابد له من أن يحس بمشاعر الوفاء قولاً وفعلاً تجاه معلمه -بالجمع وفق توالي السنين والمراحل والعلوم- وكم من قصص عرفناها عن هذا الوفاء الذي لا يعبر عن الامتنان فقط بل يتجاوزه إلى شكل من التقديس كرد جميل للدور الذي أسهم به في تربية الأجيال وصناعتها وتحقيق طموحاتها، ولن تشكِّل حالات نكران الجميل الشاذة نموذجاً مقبولاً عند أغلبية الأبناء.
ما أزال أذكر معظم المعلمين الذين درسوني في المراحل المختلفة المبكرة والثانوية والجامعية، وأدين لهم بما قدموه لي من علم ومعرفة واكتشاف لآليات العيش والمستقبل والحياة وجدواها، حتى مع أولئك الذين لم يفلحوا في طريقة تعاملهم مع التلاميذ فأعطوا ما يعدّونه العلم الوحيد بصورة مرعبة، ولم يقدِّروا –لقصور في منهجيتهم- أن في وسعهم شرح أفكارهم بطريقة تتيح المجال للعقل للتفكير والحكم بدل الفرض والإلزام بناء على الترهيب والوعيد.
مع ذلك، فهذا القليل لم يسوّد بياض الصفحة التي أحملها لهؤلاء المعلمين الذين أثروا حياتي مثلما فعل أبي وأمي وأهلي وأصدقائي ومعارفي في مسيرتي الحياتية. ومن هنا، وبهذه المناسبة العزيزة المنتَهَزَة -عيد المعلم- ندعو أنفسنا للتعبير عن شكرنا للمعلم وإعجابنا بدوره وإسهامه في تكويننا سلوكياً ومعرفياً.
وهي فرصة أيضاً لنستعيد قول شوقي –صياغة ومعنى- في الوفاء للمعلم (قم للمعلم وفه التبجيلا) لتأكيد تقديرنا لجهد من أفنى حياته في سبيل دفعنا إلى الأمام لنكون بناة مستقبل جديد مشرقٍ قوامه العلم والحضارة والتقدم، وبعيدٍ كل البعد وبالسنوات الضوئية عن الجهل والظلمات والتخلف والفوضى، وهل هناك من ينطبق عليه ذلك الوصف أكثر من المعلم، يقول أحمد شوقي: أرأيت أشرفَ أو أجل من الذي ​​يبني وينشئ أنفساً وعقولاً.

المعلم
للمعلم دور كبير في تنشئة جيل واعٍ ومتعلّم، فهو حامل للقيم والمبادئ الإنسانية، وقادر على الابتكار، المعلم هو الأساس الذي يقوم عليه المجتمع هو الذي يخرج الناس من الظلام إلى النور، ويخرج أجيالاً مفعمة بالمعرفة والمعلومات بما يعود على المجتمع بالفائدة والتطوير، ويوم «المعلم» هو تقدير منا وتكريم لدوره النبيل في تعليم الأبناء.
في الواقع، تعد مهنة التعليم من أقدم العصور، وأشرف المهن على الإطلاق التي على مقاعدها يتربى الطبيب والمهندس والعالم والنجار والحداد والكاتب والصحفي والبناء والخباز، كما الآباء والأمهات والأحفاد والجندي والقائد والمسؤول والسائق والطباخ، وكل من حولنا من الناس الذين ما وصلوا إليه لولا تلك اليد التي صنعتهم وأحيت فيهم حب العلم والتعليم، وفتحت أمامهم المدارك البعيدة برحبها.
عندما يتم تكريم هذا المعلم العظيم من طلابه يشعر حينها بأن تعبه الذي قدمه لم يضع سدىً بل أثمر حين أدرك الأطفال أنهم قد كبروا لدرجة أصبحوا يفهمون العالم من حولهم وما يجري، وما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، وما كانت نمت بذرة هذا الصغير وكبرت لولا ما قام به هذا المعلم على سنوات من زرعها في تربتها الجافة، يسقيها المعلم عرقه وجهده وتعبه حتى كبرت وصارت شجرة خضراء يانعة تؤتي أكلها وتفيض، وهي فيما بعد ستنمو أغصانها وتمتد حتى تطاول في ذلك السماء. لربما هو لم يعد بحاجة لنسميه رسولاً ودليلاً لأنه أصبح بسمو مكانه رسولاً، يحمل رسالة عظيمة ضمن ما تقتضيه مهنته؛ رسول علم وتعليم وتربية، جيل يكبر ويقف على كتفه مستقبل البلاد، وأن المجد الذي يهيب بالمعلم يرفع له رايته عالياً، حيث لا حدود لذاك الفضاء.

صعوبات
في الحقيقة، أن بناء الأجيال ورفعة المجتمعات والبلدان، تكمن في الدور الذي يلعبه المعلم، فإذا أردنا صنع مجتمع علينا صناعة المعلم، والتأكيد على مكانته السامية في المجتمعات، وتعليم الأبناء وتعزيز سبل احترامه، وتقدير دوره والمحافظة على هيبته، فضلاً عن توفير سبل الرعاية الكاملة والامتيازات الوظيفية التي ينبغي أن تكون من الدرجة الأولى، فالمجتمع بمضمونه ومخرجاته واتجاهاته مسار يحكمه المعلم بحكمته وقدرته على بناء الأجيال وإخلاصه وحبه لمهنته ورسالته.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن