ثقافة وفن

الدولة تختار كوادرها

| د. نبيل طعمة

تشكلها فتتشكل منها، ويغدو الجميع تحت عباءتها، وتتحمل إدارة شؤون مجتمعها وحركته، متناولةً أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية كافة، وتختار أفرادها بعناية ودقة، وزارات وإدارات ومجالس ونواب ومحافظون، وتتدخل في بناء الجيش، عديده وعتاده، الذي يدافع عن سيادتها، والأمن وانضباطه الذي يؤدي فيها إلى تحقيق الأمان للجميع.
أدخل بهذا على الدولة التي تجري في حياة كل إنسان مؤطّر يحمل هويتها، يستشعر فاعليتها في فكره وحركته وبنائه، التاريخ وثق أن الدولة تعني الملك أو الرئيس أو القائد، وجسدت دينياً بالفرعون والطاعة له، التي مثلت طاعة الله وإرادته التي أسكنها فيه، معتبرةً إرادة من يقودها مصدراً لكل الأحداث التي تجري على بساط دولته، وبالتالي اعتبرها البعض وظيفة ربانية، والتعلق بالدولة إرادة إلهية، فسلطة الدولة تفرض مكافحة الخطيئة وإملاء النواقص وسد الثغرات وتأمين العدالة، وهذا بحدّ ذاته قرّب البشرية من فهم الإله اللا مادي والرئيس القائد للدولة وجوهر قيامها بشكل صحيح، بعد أن كانت متعلقة بنظرية الطبيعة، وأنهم أبناؤها، ويتعاملون معها، هذه التي خلقت الفوضى، وأدت إلى نمو العدائية بين الناس وتطور الشراهة والشرور، ما أوجد الحاجة لتأمين أمنهم وحفاظ حقوقهم في الحياة، فكانت الدولة الضامن لوجودهم ووجودها، بعد أن يكون لها رأسها الذي يؤمن المصلحة العامة للجميع، من خلال توجيهه باختيار الأفضل والأنزه، العلمي والاجتماعي، لمساعدته في إدارة شؤون الدولة.
هل تخدم الدولة بعد هيكلتها مصالح معينة، وبشكل أدق مصالح الطبقة التي تتضخم من خلالها سياسياً واقتصادياً؟ حيث تتحدث عن أنها الأفضل من أجل الحصول بشكل دائم على تأييد سلطتها، مبعدةً بذلك الجميع عن المشاركة في إدارات الدولة أو الوصول حتى إلى أبوابها والمنظمين سياسياً ضمن إيديولوجيات حزبية، أم إنها وبحكم سلطاتها تحاسب وتراقب وتدقق، هل يخضعون للانتظار؟ أم يحق لهم فعلياً عبر برامج الانتخابات الوصول للمشاركة القيادية؟ أم إن نخبها تمنع وصولهم قائلة: إن سلوكها العملي هو الأفضل من حيث الخبرة التراكمية القادمة من وجودها المديد في الإدارة من باب المنطق؟
الفكرة تحمل بصمة، ولكن القادمين إلى الحياة كيف يكون حالهم، حركتهم، علمهم، وطنيتهم وأحلامهم واندفاعاتهم؟ هل تراقب الدولة مؤسساتها، وتحاسبها وتدفع بعجلة التطوير والتنمية إلى التفوق؟ وفي الوقت ذاته تراقب مكامن الخطأ، توجه لإصلاحها، وتحاسب المقصرين، فتقول: هذه ثوابت الدولة، لا يمكن أن تحيد عنها، وهنا يلعب القائد الرئيس دور التجديد ومنح الفرص والإنصاف وتوليد الآمال والمحاسبة، فهو رأس الدولة وهي جسده، كما الهيكل رأس الكنيسة والمحراب وجهة المصلين، يتطلع الحزبيون إلى قدوتهم أمينهم العام، وحركة الدولة تظهر في تقييم وتقويم أنشطتها كافة القادمة من جهاز الدولة الرسمي والفاعلين على جغرافيتها، من اقتصاديين وحرفيين واجتماعيين، وما يدينون به على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، فيظهر من الجميع شكل الدولة الواحدة الموحدة ذات السيادة، وبها ينمو شكل الدولة، ويتلاحم ويتعمق اتحاده بين مفاصله وفواصله ونقاطه.
هل نحن مثاليون أم طبيعيون؟ فالمثالية تعزل نفسها عن واقعها، والطبيعة من اسمها تحمل ما تحمل من الصح والخطأ، فالأولى تحرم نفسها من حضورها ووجودها، لأنها تنفصل عن واقعها، والثانية تحتاج إلى تهذيب وتشذيب عطائها، هاتان المسألتان تقودان إلى منطق الواقعية التي تجسد الشرف العملي للدولة، التي تبتعد عن العواطف، معليةً شأن الحكمة التي منها يلد حكمها لشعبها، وهذا ما تسعى إليه الدولة، وتعلي شأنه، مانحة الموضوعية دوراً مهماً رغم عدم إدراك أبناء الدولة لقيمتي الواقعية والموضوعية، لأن جُلّ أبنائها تائهون بين الدعوات إلى المثالية أو الانتهازية أو البغاء الإداري أو الجنسي، وهنا أقول: إن الفرد الاجتماعي لا بديل منه، وليس القصد تحقيق العدالة بالمطلق، بل تطوير الفرد كي تتطور الدولة، فأبناء الدولة يطالبون دائماً بالفروق الخاسرة، وهنا تقوم الدولة بتحقيق معادلة التوازن أولاً، ومن ثم تحويلها إلى فروق رابحة، رغم أن التنظيم الحديث للدولة يظهر تناقضات بين الأعمال الخاصة والعامة، وهذا يستدعي ضبط أطراف المعادلة، التي يجب أن تنجز أخلاقاً عامة للدولة، وخاصة في الأفراد، كي يلتزموا بها، أي إنّ الدولة تأخذ على عاتقها تحديد أخلاق أبنائها وتوجيههم إلى عمليات التحديث وحداثة العالم، وأن يكونوا مع الحاضر والمستقبل ضد ماض خيالي في عودته، وتخلّقي في وجوده، ومادام رئيس الدولة امتلك التصميم الدائم على إحراز النصر في كل المناحي، وبشكل خاص على الإرهابيين والمعتدين، فعلى الجميع أيضاً الانتصار له في تحقيق النصر في مجالات التحديث والتطوير واختيار الأفضل الفاعل والعامل لمصلحة الدولة والمواطن، وتقديم الدعم الدائم لتعزيز هذه الرؤى، ما يؤدي إلى ديمومة الانتصار.
سمة الدولة تحقيق النهضة عبر حضورها ومنع انكسارها والسماح بانتشارها اقتصادياً وثقافياً، فهي تدرك في أدبيات قيامتها طبيعة التحديات التي تواجهها، بدءاً من أبنائها وصراخهم الدائم، أو بما يحلمون بأن يكونوا عليه، وصولاً إلى استثمار قدراتهم وإدارة موارد جغرافيتها، مع الانتباه والاستعداد لمطامع الآخرين الدائمة، فأهمية الدولة أنها فوق الواقع الاجتماعي، وإلا لما استطاعت قراءته وإدارته، ومنه لا غير تأخذ بترتيب تسلسله، ولابد للمجتمعات أن تتقبل درجاتها، وتعترف بها، شريطة نجاحها الوحيدة في ذلك أن تحقق مبدأ «المساواة في الاختلاف» والإيمان بالواقع، وحقيقة الطموح الإنساني أن هذا التفاوت في الدرجات يشعر الموجودين على الدرجات أن هذا التدرج يشعرهم بأنهم أقل تساوياً ممن يختارونه، هذا الذي إن لم ينتبه له يدفع إلى عدم الانضباط، ومن ثم السقوط الذي ينتظره الراغبون في الاعتداء على الدولة، فالدولة تحمل لواء الدفاع عن القيم والمبادئ والتوازن الاجتماعي والتساوي في الحقوق، إضافة إلى قيامها بعملية أكثر من دقيقة، تربط من خلالها القيم الحيوية أو الروحية بالقيم المادية، لأن الروحي يؤكد دائماً انحطاط الشأن المادي، وهذا ما يؤخر شأن أي دولة، ويقلل من انسجامها، فلا يمكن لأي دولة أن تعزز الجوهر من دون أن تهتم بالمظهر الذي يقول دائماً: «نعم للحياة» هذه التي تتعلق بها البشرية، وتتقبل بها كل الظروف، كل يعيشها بحسب قدراته، أو بقبول نفسي يحيا به مع الآخر رغم كل شيء.
الدولة يحكمها دستور يجسد آليات إدارتها لشعبها، ينبثق من سلطة تشريعية تحدد الاستحقاقات وتنظم العلاقة بين سلطاتها وشعبها، فتظهر كمسؤولة لا غنى عنها، بحكم وجودها التاريخي المستمر، تحمل المسؤوليات لجميع أبنائها، وأولى هذه المسؤوليات مؤسساتها التي تتبدل بأسباب الفشل، وتستمر بحكم النجاح، وتتواتر طبيعياً بأسباب الرحيل والبقاء أو التقاعد والإنهاء للمهام.
تعرضت الدولة لأقسى أنواع المتاعب والظروف، حملتها على أكتافها، شغب من بعض أبنائها، إرهاب زرع بين مفاصلها على جغرافيتها، واعتداءات سافرة من كل حدب وصوب، تسع سنوات قاتلت فيها كل شيء، هذه السنة نهايتها، حكمة رأسها أوصلتها إلى معظم شواطئ الأمان، وإن بقي منها فهو تحصيل حاصل تتابعه بدقة مع إصرارها على متابعة بنائها، وكأن بها تصحح كل ما خلفته بقوة وجرأة، معتمدة على أن برّ أمانها ستصل إليه في العام القادم لا محالة، لذلك تصرّ على تفعيل استحقاقاتها بقيادات وإدارات خلاقة نوعية، تؤثر الوطن وهموم مواطنيه على ذاتها، مصممة على مكافحة مكامن الخلل والخطيئة أينما وجدت، رمزها قائدها، الذي وعد وسار بوعده رويداً رويداً- رغم كل ما حصل- إلى الأمام، لأنه يريد دولة فاعلة ناجحة ومنيعة، إرادته تتحقق لأنها إرادة شعبه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن