ثقافة وفن

هوب هوب

| محمد عامر مارديني

ذات يومٍ من سبعينيات القرن الماضي، حدث هرجٌ ومرجٌ أمام مكتبِ المدّعي العام الأول الذي كان يستقبلُ ضيفاً له في غرفة جانبية بانتظار جلسة التحقيق الابتدائي للمدّعى عليهم، فأرسل حاجبَه يستعلم عن سبب الصياح، عاد الحاجبُ وهو يصرخ:
سيدي، إن في الباب رجُلَي شرطة يقتادان أحداً ليمثلَ أمامك، وهو يصيح عالياً على الملأ كما يحصل في الأفلام المصرية بأنّه بريء.
قال المدعي العام وهو يلوي شفتيه: أعاننا اللـه على هذه البداية، دعهم يدخلوا، ثم نظر إلى صديقه قائلاً:
الكلُّ هنا يدّعي البراءة.
دخل المواطنُ مصفداً بالأغلال في يديه بثيابٍ رثة ووجه مكفهرٍّ، وقد بدت عليه ملامحُ التعنيف من رجال الشرطة.
قال له المدّعي العام:
ماذا بك يا رجل؟ لماذا أنت هنا؟
قال: سيدي القاضي، أنا أعمل معاوناً لسائق باص «سكانيا» على الخط المنطلق من خلف القصر العدلي الذي نحن فيه الآن إلى سوق مدحت باشا ثم يتابع إلى باب شرقي فباب توما ثم يتّجه إلى شارع مرشد خاطر فالسبع بحرات وبعدها ساحة الحجاز، وهكذا حتى يعود إلى حيث انطلق.
قال المدّعي العام بحنق: أستروي لي سيرةَ حياتك،
أوجِز، نعم ثمّ ماذا؟
قال معاونُ السائق: كلّ شخصٍ بالغ يصعد إلى الباص عليه أن يسدّدَ عشرة قروش، أما إذا كان يحملُ هويةً فيسدّد سبعةَ قروش ونصف القرش.
قال المدّعي العام: أسمعك أكمل.
قال معاون السائق: ومَهمتي في الباص أن أقطع «البيليت» (البطاقة) لمن أتقاضى منه أجرةَ الركوب.
قال المدعي العام: أعييتَني بالتفاصيل تكلم، ثم ماذا؟
قال معاون السائق: أرجوك أن تتحمّلَني يا سيدي القاضي، ثم صمت.
قال المدعي العام والغيظ قد حاق به: وبعدين معك؟
إن لم تتكلم سأرميك في النظارةِ إلى الغد.
قال معاونُ السائق: حاضر سيدي. في الباص، وقبل أن ينزلَ أحد الركاب صرخ في وجهي قائلاً: لقد أعطيتَني «بيليت» سبعة قروش ونصف القرش، وأنا قد دفعت لك عشرةَ قروش، فإما أن تعطيَني القرشين ونصف القرش أو تعطيَني البيليت الصفراء مقابل عشرة القروش.
وما إن نطق بكلماته تلك حتى صرخ بعضُ الركابِ في وجهي ينعتونني باللص!
على أثر ذلك بدأ التدافعُ في الباص، والكلّ حاول أن يصفعَني أو يركلَني أو يشدَّ شعري لأعطيَه القرشين ونصف القرش تتمة العشرة التي دفعها لي.
صرت حينها أقاومُهم وأدفعُ عن نفسي ركلَهم ولكمَهم إلى أن أوقف الشرطةُ الباصَ بسبب الفوضى التي حصلت في الشارع أثناء التوقفِ عند الموقف المخصّص للباص.
وخلال أقلَّ من دقيقتين اقتادتني الشرطة ومجموعةَ الضاربين إلى القسم وهناك حققوا معي ثم احتجزوني للعرضِ على النيابة العامة، وها أنا الآن أمثل أمامكم سيدنا، ولا أعرف لماذا، ولا أعرف كذلك ما ادعى عليّ أولئك الركابُ.
انتهى الاستجوابُ، وقضى المدعي العام الأول بترك معاون سائق الباص وعدم الادِّعاء عليه، على أن يتعهدَ خطيّاً بعدمِ إعادة ما فعلَ ثانيةً.
استغرب ضيفُ المدّعي العام إشغالَ وقته الثمين بأمورٍ تافهة كهذه فقال له: أمعقولٌ ما حصل الآن؟ كل هذه الضوضاء والتحقيقات والضربِ واللطم واللكم لأجلِ بضعةِ قروش؟
ضحكَ المدّعي العام وقال:
يا صديقي العزيز نحن نحقّقُ هنا فقط في القروش أما فئةُ الليراتِ فمعفيةٌ من التحقيق!.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن